تونس: «حديث الجدران» معرض يؤرخ لمطالب الثورة

شعارات كتبت «تحت النار» خلال الأيام الأخيرة لحكم بن علي

إحدى لوحات المعرض («الشرق الأوسط»)
TT

الفكرة ليست وليدة اليوم فقد جربها شباب المعاهد الثانوية بمختلف فئاتهم العمرية والاجتماعية على الجدران في استحياء، فعبروا عن مشاعر طفولية بأساليب بسيطة وساذجة ولكنها كانت كلها تصب في خانة المحظور فتجد عبارات الحب التي يوجهها الشباب لبعضهم البعض فتلحظ الحرف الأول من اسم المحبين داخل صورة قلب يشقه سهم هو عبارة عن عذاب المحبين. والبعض الآخر اتخذ المراحيض في معظم الحالات للتعبير عن تلك المشاعر وعن رأيه في الأساتذة والإدارة، وهي آراء كانت في معظم الحالات محظورة. تلك «الخربشات» على حيطان المعاهد وبين أروقة المؤسسات التربوية تحولت هذه المرة من التعبير عن المشاعر الشبابية البسيطة إلى عالم السياسة بتعقيداته المختلفة.

الإطاحة بنظام بن علي في تونس رافقتها عبارات كثيرة على حيطان شوارع مختلف المدن التونسية مهما كان حجمها، وقد استرعت انتباه كل الزائرين لتونس إبان الثورة وبعدها وهي من الناحية الاجتماعية شهادات حية عما دار في تونس وتعبير مباشر عن حجم المطالب التي وجهها الشباب المحتج إلى السلطات التونسية سواء أثناء الثورة أو بعدها. مطالب التغيير السياسي والاجتماعي وعبارات على غرار «الشعب يريد إسقاط النظام» كتبت على أكثر من جدار ومثلت مطلبا شعبيا وهي عبارات تكررت في الشارع التونسي وجمعت بين الهتاف في الشوارع والكتابة على الجدران، إلا أنها لم تكن العبارة الوحيدة التي نقشت على جدران الشوارع التونسية.

عبد الباسط التواتي الدكتور المختص في طب الشغل والحاصل على إجازة في الفنون التشكيلية، تجول في مجموعة كبيرة من المدن التونسية وجمع مختلف تلك التعبيرات وعرضها في معرض فردي بدار الثقافة ابن خلدون بالعاصمة التونسية ضمن معرض اختار له من الأسماء «حديث الجدران»، المعرض انطلق يوم 13 مارس (آذار) الحالي ويتواصل إلى نهاية الشهر.

يقول عبد الباسط التواتي في حديث خاص بـ«الشرق الأوسط»، إن فكرة المعرض راودته منذ بداية الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في تونس، وأهمية تلك الكتابات الجدارية أنها كتبت «تحت النار» كما ذكر. فالذين أمضوها خاصة إبان الفترة الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع، خاطروا بحياتهم فقد كان بالإمكان أن تأتيهم رصاصة من أحد القناصة تذهب بحياتهم، ولكنهم لم يبالوا بالأمر وآمنوا بعدالة ما خرجوا من أجله إلى الشارع ودافعوا عنه بكل الوسائل ومن بينها الجدران التي هي عبارة عن فضاء عام يلتقي فيه كل الناس ويتبادلون من خلاله الأفكار ويضعون قائمات المطالب.

ويواصل التواتي موضحا أن تلك الكتابات المعروفة باسم فن «الغرافيتي»، وهو فن إيطالي بالأساس، مضمنة بمجموعة من المواقف وليست محايدة.

وعن تاريخ هذه الممارسة البسيطة التي تحولت إلى فن، قال التواتي إنها بدأت في الشارع التونسي بشعارات رياضية حول النوادي وحملت شعارات الفرق المحبة لكل ناد، ولم يكن السلطات التونسية تمنع ذلك باعتبار أن الكتابة عن الرياضة تدخل في باب تلهية الشباب عن مشكلاته الحقيقية ولم تمثل مشكلات تذكر للسلطات القائمة إلا أنها سرعان ما قطعت مع الرياضة وتحولت مباشرة إلى عالم السياسة وظهرت على التو شعارات «تسقط الحكومة»، و«لا للتجمع» وهي قطيعة فاجأت جميع الناس.

التواتي زار أكثر من عشرين ولاية (محافظة) تونسية منذ قيام الثورة وجمع ما لا يقل عن 890 لوحة جدارية وكانت أول لوحة كتب عليها العبارة الشهيرة لآخر خطاب للرئيس التونسي المخلوع وهي عبارة «أنا فهمتكم» وتمت العملية يوم 13 يناير (كانون الثاني) الماضي قبل يوم واحد من الإطاحة بحكم بن علي.

التواتي أكد أنه لم يركز على الكتابات التي تلت الثورة وخاصة تلك التي كتبها المعتصمون في ساحة القصبة لأنه يرى في تلك الكتابات سهولة وهي تتم في أجواء من الديمقراطية واحترام حرية التعبير، وتوجه خلافا لذلك بالأساس إلى الكتابات التي تمت تحت ضغط البوليس والآلة الأمنية في مدن مثل القصرين وسيدي بوزيد المنطقتين التي انطلقت منهما الشرارة الأولى للاحتجاجات الاجتماعية التي أطاحت ببن علي. وقضى التواتي كل يوم أحد من الأسبوع منذ بداية الثورة في إحدى المدن التونسية لجمع تلك اللوحات ولكنه عرض منها القليل في هذا المعرض واحتفظ بالكثير منها في أرشيفه الخاص.

التواتي ختم لقاءنا معه بطرفة تضمنها المعرض فقد كتب على إحدى اللوحات: «يا غسان فيق فيق عبد الباسط يحكم فيك». وكل من زار المعرض سأله عن غسان وعن عبد الباسط. وذهب إلى ظن معظم الناس أن عبد الباسط هذا قد يكون أحد جلادي وزارة الداخلية ولكن ويا المفاجأة الغريبة فقد اتضح أن تلك اللوحة قد كتبها ابنه غسان ووضعها على باب غرفته في إشارة إلى ضرورة إنهاء التسلط بصفة عامة. الفكرة كما قال عبد الباسط التواتي جاءت لابنه غسان من خلال موجة مطالبة كل التونسيين بالحرية فما كان من ابنه إلا أن بدأها بشكل مداعب مع والده.