لبناني يحول السنطور إلى آلة أساسية في المناهج التعليمية

مدخلا عليه تعديلات على الرغم من عمره البالغ 3000 سنة

ياسين يعزف على سنطوره المعدل
TT

«صراحة، أنا لم أخترها، بل هي اختارتني، تعرفت عليها عن طريق الصدفة، لكنني حين التقيتها، أدركت مباشرة أنها ما أبحث عنه، بعد أن راقني صوتها وشكلها»، يقول العازف هياف ياسين، بعد أن كان ذات يوم في جولة بحث ذاتية، عن آلة تعجبه...... وترضيه. ويضيف: «على الرغم من أن السنطور آلة موسيقية جد عريقة (يرجع تاريخ ظهورها إلى 3000 آلاف سنة قبل المسيح)، فهي لم تستخدم عربيا، إلا في تقليد واحد هو (المقام العراقي)».

وفي عام 2005، ولد سنطور جديد في لبنان، يحمل كيانا جديدا وخاصا، شكلا ومضمونا، بعد تعديلات ابتكرها وأضافها هياف، ليصبح سنطورا لبنانيا وعربيا (غير عراقي)، يسمح بصياغة الجملة الموسيقية العربية المشرقية واللبنانية.

«علاقتي بالسنطور ترتبط بوجودي المهني، نذرت نفسي لخدمة هذا التقليد الموسيقي، من خلال هذه الآلة، وهكذا كان قدري».. يصف ابن عكار علاقته بالسنطور. مؤكدا أنه ليس تاجرا ولا سياسيا، وهو لم ولن يفكر في أن يحمل السنطور شيئا من اسمه.

ويرى هياف، أن المسألة اختراع ثقافي وموسيقي لخدمة ولخير كل البشرية في هذا الزمن وحتى مستقبلا، تواضع تلتمسه عند من حاز على براءة اختراع، بعد تسجيله السنطور في حماية الملكية الفكرية والأدبية، كاختراع لبناني للموسيقى اللبنانية خاصة، والموسيقى العربية عامة.

ثلاث سنوات، تطلبتها استراتيجية إسقاط الموسيقى العربية وما تحمله من أرصدة موسيقية ومن تنظير علمي على آلة السنطور، ليرى هياف ما هي حاجاتنا الموسيقية وليس العكس.

أما النتيجة فذات وجهين: إدخال لبنان هذه الآلة في تقليده الموسيقي الشعبي، وإتاحته الفرصة لها لتعزف الموسيقى الكلاسيكية العربية المشتركة بين لبنان وسورية ومصر (موشحات - أدوار - بشارف - سماعيات).

وبذلك، حل السنطور كآلة جديدة دخلت على صلب تقاليدنا الموسيقية المشرقية العربية، إلى جانب كل آلات «التخت الموسيقي العربي» المعروفة (كالقانون - العود - الناي...)، يتابع هياف حديثه الموسيقي بلهجته العكارية.

كلام يقودك إلى معرفة التعديلات والإضافات، التي شملت الشكل، والمقاييس المتناسبة مع الاحتياجات الموسيقية، وعدد الأوتار (132)، وقوة شد هذه الأوتار (مسألة جمالية)، وعدد الدامات (44 دامة)، والمواضع (صار يحوي 6 بدل 3).

في البداية كان هياف ناقما على الموسيقى العربية وما تعيشه من ضعف وترد، لكن في سياق دراسته الموسيقولوجية الجامعية، تعرف على الموسيقى العربية الأصيلة، على يد أستاذه نداء أبو مراد.

تسجيلات مهمة، راقية وعميقة، تعرف بتسجيلات مطلع القرن (1898 - 1932) سمع فيها كل سحر من الموسيقى العربية، على صعيد القوالب الغنائية والعزفية معا.

هنا بدأ الارتباط الحقيقي، بين هياف وهذا النوع الموسيقي، الذي اكتسب احترامه ومشاعره في آن معا.

«وهكذا رحت أبحث عن آلة، تكون صلة وصل بيني وبين هذه الموسيقى، وبالفعل كان السنطور» يشرح من حافظ في ابتكاره، على الأثر الثقافي الثلاثي الأبعاد (التقليد الموسيقي العربي المشرقي، التقليد العثماني والتقليد الفارسي)، وحتى الآثار لتقاليد مشرقية أخرى موجودة (كالسريانية والبيزنطية وغيرهما...).

«رحت أبحث عن نفسي في السنطور، حتى ابتكرت سنطوري الخاص، وصنعته بيدي وما زلت أصنعه لطلابي وأعلمهم أن المسألة تاريخية، وأن العلاقة بين الحضارات في النهاية، هي علاقة تفاعل وأخذ وعطاء». يكشف هياف، مشددا على أنه من أنصار التجديد في التقليد الموسيقي المشرقي العربي، مع المحافظة على مقوماته من خلال إحداث تفاعل داخلي في عناصره الذاتية.

صوت مزيج بين القانون من جهة، والبزق من جهة ثانية، هو الانطباع السائد لدى أغلبية الجمهور الذي يتذوق صوت هذه الآلة، ويتفاعل إيجابيا معها من خلال الحفلات والتسجيلات، التي قدمتها ولا تزال، فرقة التراث الموسيقي العربي بقيادة هياف ياسين. أما أهم إنجازاته فهو إدراج السنطور رسميا في الجامعة اللبنانية، وفي الجامعة الأنطونية، وفي المدرسة الموسيقية الأنطونية، وتأسيسه لبيت الموسيقى في النجدة الشعبية اللبنانية التي تدعم بشدة التقليد الموسيقي المشرقي العربي وآلة السنطور خصوصا.

«غزل» هو الألبوم الأول للفرقة، الذي تضمن وصلة موسيقية غنائية وعزفية كاملة من هذا التقليد، وفيه لعب السنطور دور الصدارة، أما «عشق» فهو سيبصر النور في شهر أبريل (نيسان)، ألبوم عزفي فقط، يركز بوضوح وإسهاب على هذه الآلة الساحرة.

«العمل في تطوير وتعديل مستمر، لكنه غير جذري، بينما التعليم يبدأ باكرا، لتنشئة جيل مثقف وواع موسيقيا، ولهذه الغاية قمت باختراع جديد (آلة السنطور التربوي)، وهو الآلة الموسيقية التربوية الوحيدة في العالم، التي يمكن لها أن تؤدي (المسافات الزلزلية)، أي النظام الموسيقي الخاص بالمشرق العربي (الحاوي لأرباع وثلاثة أرباع الطنين)» يجيب عاشق السنطور، وهو يهم بالضرب بمضربين صغيرين على أوتار آلته.

واليوم يمكن الكلام عن انتشار لأكثر من 300 سنطور في المناطق اللبنانية كافة، بعد أن باشر هذا السنطور «المولود» بشق طريقه إلى المدارس الخاصة، بينما المدارس الحكومية تنتظره كآلة أساسية في التعليم الموسيقي المدرسي، بناء على خطة اقترحها وزير التربية حسن منيمنة، لتفعيل التربية الموسيقية.

حفلات وأمسيات، تنقلك بتقليدها إلى موسيقى النهضة العربية الثانية (في النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، الذي أنشأه المطرب عبده الحامولي، وتلميذه محمد عثمان ومن تبعهما في ذلك من بعدهما في عهد الخديوي إسماعيل باشا، وبني على أربعة أقطاب هي: الموشحات الحلبية، والموسيقى العثمانية، والموسيقى الدينية الصوفية الإسلامية، والموسيقى الشعبية المصرية، وانتهى بالمطرب صالح عبد الحي، وكوكب الشرق أم كلثوم في فترتها الأولى من الغناء.

وكما كان هياف طالبا موسيقيا، فإن «بلال بيطار» يحذو حذوه قائلا: «السنطور كالصديق في وقت الضيق، ألفت فرقة مع أربعة من أصدقائي في الجامعة، وأنا عازف السنطور فيها تحت إشراف أستاذنا هياف. الموسيقى حاجة يجب علينا إشباعها، وهي تختلف عن الطعام والنوم، لأنها ليست بيولوجية، بل تحاكي الروح وتهذب النفس، وتعطي العقل غذاء ذهنيا. ببساطة أنا وقعت في حب هذه الآلة».

العشق ذاته تجده عند الطالبة روند شمس الدين. السنطور يأخذني إلى عالم آخر، بالفعل هو آلة نادرة، صوته مميز جدا وغريب عن باقي الآلات الشرقية، هو أصبح جزءا مني، ولا أستطيع التخلي عنه وألقاه لمدة ساعتين يوميا.