لبنان: وظيفة واحدة لا تكفي

بسبب التفاوت الكبير بين المصروف والمدخول وفي ظلّ ارتفاع تكاليف متطلبات الحياة

الحياة اللبنانية تبقى دائما مقيدة بواقع عام هو أن «المصروف أكبر من المدخول» في ظل تزايد المتطلبات («الشرق الأوسط»)
TT

«بدي عيش بلبنان بلا ما اشتغل شغلتين» (أريد أن أعيش في لبنان من دون أن أعمل في عملين)، هو الشعار الذي يرفع الشباب اللبناني أصواتهم مطالبين به، ويكون الحاضر الدائم في المظاهرات الأسبوعية التي تطالب بإسقاط النظام الطائفي اللبناني. ومما لا شك فيه أن قارئ هذه العبارة سيتعرف على الواقع الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء الشباب الذين وبلا أدنى شك يشكّلون نبض الحياة اللبنانية. وخلف هذا الشعار واقع ليس سهلا يجعل هؤلاء «يناضلون» في سبيل الصمود في بلدهم قبل أن يحملوا «الشنطة» ليلحقوا بمن سبقهم في الهجرة والبحث عن مستقبل آمن. وفي الوقائع اللبنانية المهنية، أصبح من الصعب أن يجد المواطن اللبناني وظيفة تليق به وبمستواه العلمي والثقافي والخبرة «المتراصّة» سطورها في صفحة سيرته الذاتية وما يناسبها من راتب على قدر هذه الجهود وعلى قدر متطلبات الحياة، فهذا أمر أصبح من شبه المستحيلات لا سيّما إذا لم يكن مدعوما بـ«واسطة» من هذا المرجع السياسي أو ذاك. أما وقد استحالت إمكانية الفوز بوظيفة على قدر الآمال والجهود في غياب دور المسؤولين في الدولة والمعنيين، وفي ظلّ ارتفاع تكاليف الحياة اليومية، فأصبح البحث عن بدائل أمرا لا بدّ منه. الهجرة وبلا أدنى شك هي من ضمن هذه البدائل «الرائجة» لبنانيا، فلبنان وكما بات معروفا تحوّل إلى وطن العجزة بعدما تفرّق أبناؤه الشباب شرقا وغربا، ولا فرق هنا كثيرا بين الإناث والذكور، لتأمين مستقبلهم. لكن من اختار البقاء في أرجاء هذا الوطن، كان لقراره هذا ثمنه جهدا نفسيا وجسديا وعائليا واجتماعيا على حدّ سواء. والحل بالتالي يكون في محاولة لسدّ هذه الثغرات عبر تضاعف الجهود والبحث عن وظيفة إضافية من هنا ومهنة أخرى من هناك تملأ ساعات الفراغ المتبقية من أيام العمل الطويلة، على قاعدة المثل اللبناني القائل «حجر يسند خابية»، وفي معظم الأحوال يبقى المردود المادي لهذه الأعمال لا يوازي الجهود المبذولة في سبيل تأمين لقمة العيش، لا سيّما أن الحياة اللبنانية تبقى دائما مقيدة بواقع عام هو «أن المصروف أكبر من المدخول» في ظلّ تزايد المتطلبات وتحوّل الكماليات إلى أساسيات، إضافة إلى ما يسود الأوساط اللبنانية من «عادة محلية» متمثّلة بالمظاهر الاجتماعية التي يصعب التخلّي عنها مهما تراجع الوضع المادي، وتتساوى في هذا الأمر، كلّ حسب وضعه، كلّ الفئات الاجتماعية. سينتيا، لبنانية في الـ27 من عمرها، لم يمرّ على زواجها إلا أشهر قليلة، أشهر كانت كفيلة برسم صورة الحياة العائلية اللبنانية ومتطلباتها التي صار الدخول في قفصها يحتاج إلى «حسابات» قد تعيق اتخاذ هذا القرار من الأساس. وتقول سينتيا «أعمل كصحافية في ثلاث مؤسسات، وزوجي يعمل أيضا أستاذا قبل الظهر وفي مؤسسة بعد الظهر، إلى درجة، أننا قد لا نلتقي إلا في ساعة متأخرّة من الليل. ورغم كلّ هذا الجهد، بالكاد نستطيع تأمين المتوجّبات علينا من مدفوعات شهرية، بدءا من تقسيط البيت إلى تقسيط المفروشات وما يرافقهما من مدفوعات ثابتة تقضي في نهاية المطاف على كلّ التعب الذي بذلناه طوال الشهر». وتضيف «لكن هذا لا يعني أنّه يبقى لدينا المال الإضافي أو أننا نعوّض عن كلّ هذا التعب بالسهر أو السفر أو الخروج والتمتّع بعطلة نهاية الأسبوع، بل على العكس من ذلك، فالمال (يتبخّر) قبل نصف الشهر وأيام العطلة تكاد لا تكفي للراحة والقيام بالواجبات التي لم نستطع القيام بها في أوقاتها. الأمر الذي يجعلنا نفكّر ألف مرّة قبل أن نتّخذ قرار إنجاب طفل».

ومن جهته، يقول محمد: «أصبحت أشعر أنّني مدمن على العمل، يوم عملي يصل إلى أكثر من 12 ساعة، علي أن أحضّر لزواجي في الصيف المقبل وأؤمّن كل المتطلبات من العرس إلى الأثاث وما يرافقهما من مصاريف إضافية من دون أن ننسى إيجار البيت الشهري». ويضيف: «بدأت غمار الحياة المهنية بعد تخرّجي من الجامعة منذ نحو 6 سنوات، ولغاية الآن لا أملك القدرة المادية على شراء منزل، فقرّرنا أنا وخطيبتي التي تعمل أيضا، السكن في بيت بالإيجار على أمل أن يتحسّن الوضع ونتمكّن من شراء بيت خاص بنا». في هذا الإطار، وليس بعيدا عن المعاناة التي تواجهها العائلات اللبنانية وتؤثّر بالتالي على العلاقات الاجتماعية داخل العائلة الواحدة وخارجها، تقول الدكتورة مي السبع المتخصّصة في علم الاجتماع: «هذا الواقع اللبناني الذي جعل المرأة والرجل يخرجان إلى العمل لساعات طويلة خلال النهار انعكس على طبيعة الحياة الأسرية. والأولاد هم الطرف الأكثر تأثّرا بهذا الخلل أو النقص الذي نسف المثلّث الأسري المتمثّل بالأم والأب والأولاد بعدما صارت تربية الأولاد وفي غياب الأهل الدائم، من مهمّة الجدّات أو الخادمات، وقد تمضي أيام متتالية قبل أن يلتقي الأهل ولا سيّما الأب بأولاده، نظرا إلى تأخّره في العمل إلى وقت يكون قد نام فيه الأطفال». كذلك، اختارت لارا (32 عاما) وهي تعمل مدرّسة في إحدى المدارس اللبنانية ولديها طفل واحد، أن تفتتح محلا للألبسة يكون بمثابة باب رزق ثالث لعائلتها، لا سيّما أنّ عمل زوجها ليس محدّدا بدوام ثابت وبالتالي يصعب عليه البحث عن وظيفة أخرى في ساعات الفراغ. وبذلك، يتناوبان معا على إدارة شؤون المحل الذي تقول عنه: «رغم أنّ السوق في لبنان تتأثّر بالأوضاع الأمنية وتمرّ بمراحل هبوط وازدهار، فإنّ مردود هذا المحل يبقى سندا يساعد في المصاريف التي تتزايد وطأتها يوما بعد يوم ولا تزال الرواتب ثابتة على ما هي عليه منذ سنوات». وتضيف: «لكن هذا العمل المتواصل ينعكس سلبا على العلاقة العائلية بيني وبين زوجي كما بيننا وبين طفلنا، فلا أبالغ إذا قلت إنّه قد يمرّ يومان أو ثلاثة أيام من دون أن يلتقي ابني بوالده الذي قد يصادف فترة وجوده في البيت فترة قبل الظهر، ويغيب عن البيت بعد الظهر ولا يعود إلا بعد ساعة متأخّرة من الليل. أصبحنا نشتاق إلى بعضنا البعض».

وتعتبر السبع أنّ «الأمر نفسه لا يختلف كثيرا لدى الشباب والفتيات غير المتزوّجين، فهؤلاء وإن استطاعوا إيجاد وقت للترفيه والسّهر وما إلى ذلك، فإن هذا لا يعني أن علاقاتهم الاجتماعية تبقى طبيعية، بل ستتأثّر بشكل أو بآخر، لا سيّما مع سعيهم الدائم لجني المزيد من المال طالما أنّنا في بلد نستهلك فيه أكثر مما ننتج. الأمر الذي يبقي هؤلاء أمام خيار لا بديل عنه في ظلّ تضاعف المتطلبات». وتلفت السبع إلى أن عاملا مهما يتحكّم، إضافة إلى غلاء المعيشة، بحياة اللبنانيين، وهو المتمثّل بالمظاهر الاجتماعية ذات التكاليف الباهظة في غياب ثقافة السياحة والعطلات الطويلة التي تكون في الدول الغربية مناسبات سنوية تجمع أفراد العائلة للسفر والاستجمام.