ربيع باريس يغتسل بألوان شفيق عبود

معرض استعادي للرسام اللبناني الذي أحب المدينة وأقام فيها حتى الموت

من أعمال الفنان المعروضة
TT

منذ سنوات، لم يحظ فنان عربي بمعرض شامل في باريس مثل هذا الذي فتح أبوابه، أول من أمس، لتكريم شفيق عبود، الرسام اللبناني الذي غادرنا قبل سبع سنوات، تاركا وراءه منجزا إبداعيا مهما لأجيال عربية لا تعرفه بما فيه الكفاية. وإذا كان معهد العالم العربي هو الداعي إلى هذه «الوليمة الفنية» الدسمة، فإن الفضل في جمع لوحات المعرض يعود إلى كلود لومان، عاشق الألوان اللبناني الأصل الذي يدير صالة للعرض الفني، تحمل اسمه، في حي مونبارناس.

كيف تسنى له، وهو الفرد الذي لا تدعمه دولة ولا تقف وراءه وزارات للثقافة، أن يستدعي، من متاحف عالمية ومجموعات خاصة 190 لوحة متفاوتة الأحجام، بينها ما يشغل جدارا كاملا، لكي يشبع نهم جمهور يتراوح في مشاربه ما بين متخصص وذواقة؟ كان الصف، ليلة الافتتاح، يصل إلى البوابة الخارجية لمعهد العالم العربي، وقد انتظم الزوار، تحت جنح الليل، في انتظار أن تخرج دفعة من المتفرجين لتدخل دفعة. أما القاعات التي توزعت في أكثر من طابق فكانت تضيق بالحشد من جهة، وباللوحات التي تطالب بفضاء أرحب لتتنفس وتأخذ مدياتها.

يقول لومان في تقديمه للمعرض، إن الأوان قد حان لكي تخصص العاصمة الفرنسية معرضا استعاديا لشفيق عبود الذي هو أكبر رسام لبناني وعربي مجدد عاش وعمل فيها في النصف الثاني من القرن العشرين. إن لوحاته هي بيان للحرية واللون والضوء. وهو رغم تعلقه بوطنه الأم، لبنان، وبمناظره وشمسه وذكريات طفولته، فقد كانت رغبته أن يقام له هذا المعرض الشامل في باريس، أولا، المدينة التي أحبها وتبنته واعترفت بقيمته. ومن أجل ذلك، كان لا بد من الاستعانة بما تركه الفنان في الاستوديو الباريسي الخاص به، وبما هو موجود لدى وريثتيه: ابنته كريستين وشريكة حياته الأخيرة. هذا بالإضافة إلى لوحات جاءت من متاحف ومجموعات في ألمانيا وكندا والدنمارك وبريطانيا وهولندا ولبنان والكويت والإمارات. إنها فيض من الألوان والأشكال التي انسابت من قلبه وعقله، قبل ريشته، ما بين 1948 و2003، أي بين وصوله إلى باريس ورحيله عن الدنيا.

يذكر لومان أن عبود كان بسيطا بقدر ما هو متعدد. فقد كان يحب لذائذ الحياة من طعام وشراب ومخلوقات جميلة. وفي الوقت نفسه، كان يخوض صراعا مع الرسم ومع الذات ومع العالم الخارجي المتعدد، أيضا. فقد كان دائم التساؤل، مثلا، عن شرعية ما تبدعه ريشته، دون أن تذهب به أفكاره إلى الغرور. ويروي لومان أنه قال لعبود، ذات يوم، إن تكدس لوحاته في صالة العرض لديه يجعله في حالة من النشوة بحيث يروح يغني الألحان اللبنانية والعربية القديمة التي كان قد حفظها في صباه. ورد الرسام: «أنا أيضا أغني بالعربي في مرسمي». إنه المرسم القريب من حدائق «مونتسوري» في باريس، حيث كان يرسم ويصور ويحفر ويطبع ويجدل وينفذ تجاربه المتعددة وينزلق، بلطافة، من الأسلوب التصويري الواقعي إلى التجريد النابع من فكر لا تحده حدود وعينين تريان ما وراء الأشياء. يقدم لنا المعرض تجربة فنان مرهف متوهج الموهبة. لقد أمسك بعصب عصره مبكرا، وامتلك قدرة مدهشة على استشعار الألوان والتلاعب بها، فكان حداثيا متألقا، باريسي الهوى والتجارب والعلاقات، دون أن يضيع خيط انتمائه إلى لبنان الذي لم ينقطع عنه وواصل إقامة المعرض فيه، وإلى منطقة ثرية بشمسها وطبيعتها وبحرها وأقواس قزحها. لذلك جاء معرضه الاستعادي هذا مناسبة للبهجة ولاغتسال البصر بالأنيق من الألوان والتمازجات. إن كل لوحة لا تشبه ما يسبقها وما يلحقها، وكل جدار يزهو بما يحمل، وكل انعطافة في أروقة القاعات هي فرصة لاكتشاف مفاجأة جديدة.