كما في كل العواصم، احتفت بيروت بيوم المسرح العالمي أول من أمس الأحد، على طريقتها الخاصة. لم تقرأ رسالة المسرح التي كتبتها هذه السنة الأوغندية جيسيكا كاهوا ودعت من خلالها إلى تمويل المسرح القادر على نشر السلام، بدل صرف الأموال على بعثات حفظ السلام لحل النزاعات، التي غالبا ما تحصد الخيبة.
الاحتفال اللبناني بيوم المسرح، جاء محليا، مركزا على قضية تخص المسرح اللبناني، فإذا كان التلفزيون يؤرشف نفسه بنفسه كما الإذاعة، من خلال التسجيلات، فإن المسرح يحتاج لجهد خاص كي تحفظ مواده ولا يطويها النسيان. وبعد 50 سنة على قيامة المسرح اللبناني، فإن المسرحيين يتساءلون اليوم عن أرشيفهم.. أين ذهب؟ من يتمكن من حفظه لهم أو استعادته وإعادة تنظيمه؟ أسئلة تبدو صعبة وعصية، في ظل فوضى الأفكار، وفوضى الوثائق والمعلومات، التي تشبه في تناثرها وتشظيها حال بلد أكلته الحروب وعصفت به الفرقة.
وضمن إطار «مهرجان 50 يوما.. 50 سنة» الذي ينظمه مسرح «دوار الشمس» في بيروت بدءا من 6 مارس (آذار) الماضي ويستمر حتى 23 أبريل (نيسان) المقبل، ويحتفل بمرور نصف قرن من حياة المسرح اللبناني، عقدت أمس وبالتزامن مع يوم المسرح ندوة، حملت عنوان «المسرح والتوثيق: إشكاليات ومشارف»، بحضور مسرحيين وبحاثة ونقاد، معنيين.
في الندوة، بدا وكأن المتحدثين ينطلقون من نقطة الصفر في ما يخص أرشيف المسرح. لم تكن الطموحات كبيرة عند المتحدثين الذين كانوا بالكاد يبحثون في أول الطريق.
الباحث الفرنسي المقيم في سورية أرنو شابرول، يحضر أطروحة دكتوراه حول «سوسيولوجيا المسرح اللبناني المعاصر»، تحدث عن مصادر عديدة عاد إليها في دراسته، منها التسجيلات التلفزيونية والإذاعية التي كان أشهرها التسجيلات الصوتية لمسرحيات زياد الرحباني ولقيت رواجا كبيرا، والوثائق الشخصية كما الدعايات والإعلانات، معتبرا أن المسرح فن زائل يصعب القبض عليه بعد مرور الحدث، وإنما البحث عنه يصبح من خلال تلمس آثاره المسجلة أو المكتوبة في الصحف، شارحا أن المقالات النقدية والدعائية التي تنشر، تشكل جزءا مهما، من الآثار المتبقية لهذا المسرح. ولفت أرنو إلى أن المسرح اللبناني منذ الستينات ابتعد عن الأدب ليعطي الدور الأكبر للمخرج، وأن قضايا كثيرة أثيرت في الصحف، في الستينات، حول المسرح منها استخدام الفصحى أم العامية على الخشبة، كما أثير موضوع آخر في بداية الألفية وهو التمويل الغربي.
أما الناقد السينمائي محمد سويد، فقد تحدث عن مساهمة التلفزيون في الأرشفة للمسرح من خلال تجربته في تلفزيون لبنان حيث أوكل إليه أمر الأرشيف لفترة من الزمن. ومن لطيف ما شرحه سويد أن تصوير المسرحيات كان يتم في الاستوديو بحيث تنقل كل الديكورات ويعاد التمثيل بعيدا عن الجمهور، وهو ما تكفل به لفترة طويلة تلفزيون لبنان. لكن المؤسف بحسب ما روى سويد هو أن هذا الأرشيف بدا يوم تسلمه، أشبه بذاكرة تعرضت لجلطة دماغية، فثمة ما لم يعد صالحا بعد أن أفسده الدهر، ومنها ما كان يحتاج لترميم. والخبر الأسوأ أن التسجيلات القديمة كانت تتم على بكرتين؛ إحداهما للصوت والأخرى للصورة، ومن المؤسف أن بعض التسجيلات فقدت صوتها أو فقدت صورتها مع ضياع بعض البكرات وبقاء أخرى.
محمد كريم من طرفه، وهو صاحب كتاب عن المسرح اللبناني، تحدث عن دور الإذاعة في التوثيق للمسرحيات، وذاك التعاون المثمر الذي قام بين الإذاعة (وهي قطاع عام) والمسرح الذي كان يديره باستمرار القطاع الخاص.
أما وليد صادق ففتح أبواب نظريات الأرشفة، معتبرا أن الأرشيف سلطة، ومن يحق له حفظ مادة ما وإهمال أخرى يمارس سلطة على الآخرين، وبالتالي، فالأرشيف ليس مكانا رحبا، وإنما مكان منظم يتم اختيار محتوياته، وفق أهواء جهة معينة. ورغم أن القيمين على الأرشيف يبدون عناية كبيرة في الحفظ، فإنهم في قرارة أنفسهم يتمنون إلغاءه، لأنه قادر على مساءلتهم من خلال الوثائق. وربط وليد صادق بين الأرشيف وفكرة اللاوعي التي تحدث عنها فرويد، واصفا بناء أي أرشيف بتشييد طلل من مجموع ركام.
توصيف نظري، جاء بعد مداخلات دارت حول موضوع الأرشيف، ومقدمة إيضاحية من الباحث في الشؤون الاجتماعية والفنية أكرم الريس، الذي لفت خلال مداخلته إلى مؤتمر مسرح العالم الثالث الذي عقد عام 1971 في بيروت وأوصى بإقامة مكتبة سمعية بصرية، وبقيت التوصية حبرا على ورق.
لم تكن المداخلات لتصب في صلب الموضوع الذي كان الحاضرون يتمنون معرفة المزيد عنه، وهو ما إمكانية تشكيل أرشيف لبناني مسرحي اليوم؟ ماذا بقي من النصوص التي وضعت على المسرح؟ والأزياء التي استخدمها المسرحيون؟ وديكورات مئات المسرحيات؟ كل ما عرفناه هو أن المخرج اللبناني جلال خوري ينام على أرشيف مهم بحسب ما روى للحاضرين، يضم ما يخص أعماله وأعمال أصدقاء آخرين. وهو يحفظ بين ما يحفظ حتى دفاتر حسابات لأعمال مسرحية، وبطاقات الدعوة، ومع ذلك، فإن أحدا لم يطرق بابه ليسأل عنها.
من الأمور المؤسفة أيضا التي أثيرت في الندوة أن أهم الدراسات حول المسرح اللبناني موجودة اليوم في الغرب. هذه الدراسات قام بها لبنانيون لنيل شهاداتهم في الدكتوراه هناك، وباتت بحاجة لمن يجمعها.
بقيت الندوة نظرية وبعيدة عن أي مقترحات عملية ملموسة ليس فقط بالنسبة لأرشيف كبير، عمره نصف قرن، يحتاج مؤسسة خاصة لدعمه، ولكن على الأقل بالنسبة للدراسات التي يمكن لأصحابها، إذا كانوا لا يزالون أحياء، تزويد الجهة المعنية بنسخة منها. ولا يتمنى أي باحث أكثر من أن يؤخذ جهده بعين التقدير ويقرأ ويستفاد منه.
على أي حال مسرح «دوار الشمس» ماض في محاولاته، التذكيرية والتحريضية، وهو يطرح الأسئلة ويشجع على الإجابات، أما الغائب الأكبر، فهي المؤسسات الحقيقية التي يفترض أن توجدها الدولة، وتحديدا وزارة الثقافة للحفاظ على الإرث الثقافي، والمسرح ليس سوى جزء منها.