مشاركة الأطفال في المظاهرات تنعكس سلبا على صحتهم النفسية

معظم السلوك العدواني متعلَّم من خلال الملاحظة والتقليد

من الضروري تجنيب الأجيال الناشئة المشاركة في المظاهرات واعطائهم دروسا وممارسات عملية في حرية التعبير وحب الوطن («الشرق الأوسط»)
TT

من بين مواد اتفاقية حقوق الطفل: الحق في حرية الرأي والتعبير، وقد شارك الكثير من الأطفال في المظاهرات المناهضة للحكومات في الآونة الأخيرة، الأمر الذي يثير القلق بشكل كبير. فقد أشارت التقارير إلى تعرض الكثير من الأطفال المشاركين في هذه المظاهرات إلى مخاطر بالغة؛ فقد قتل الكثير منهم وتعرضوا لحالات إغماء جرَّاء القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين. كما أن مشاهد العنف والقتل غالبا ما تنعكس سلبا على تصرفات الأطفال وسلوكياتهم وصحتهم النفسية، الأمر الذي يعتبر جريمة في حق الطفولة، ويؤكد ضرورة وأهمية تجنيب الأطفال هذه الأحداث والمشاهد، حرصا على سلامتهم وصحتهم ومستقبلهم.

ففي مظاهرات مصر في ميدان التحرير في القاهرة شارك الكثير من الأطفال بجانب آبائهم وأمهاتهم، فمنهم من ردد الهتافات، ومنهم من حمل اللافتات والشعارات السياسية والأعلام، ومنهم من رشق قوات الشرطة بالحجارة، كما أن بعض الأسر رسموا على وجوه أطفالهم ألوانا لتشكل علم مصر، وهناك أسر أخرى رسموا على أذرع الأطفال شعارات سياسية، إلى غير ذلك من صور فريدة عبروا من خلالها عن حبهم للوطن ورغبتهم في الإصلاح.

على الجانب الآخر، نجد أن مشاهد وأحداث العنف والقتل خلال المظاهرات أمام نظر أطفال دون السن القانونية للمشاركة فيها، تثير القلق وتهدد سلامة وصحة الأطفال الجسمية والنفسية، خاصة أن الأطفال غير معتادين على رؤية مشاهد قتل وعنف حادة بهذا الشكل وغير مسبوقة.

كما أن مشاركة الأطفال في المظاهرات تثير الكثير من التساؤلات، مثل: ما شعور الأطفال عندما يشاهدون مشاهد ومناظر مؤلمة من سقوط قتلى وجرحى في المظاهرات، وكذلك عندما يشاهدون صدامات واشتباكات عنيفة بين أبناء الوطن الواحد المؤيدين منهم والمعارضين وكأنهم في ساحات للقتال والمعارك؟ وهل يدرك هؤلاء الأطفال معنى المفاهيم والشعارات السياسية التي رددوها في هذه المظاهرات وأبعادها وخلفيات وأسباب النطق بها، من قبيل المطالبة بالديمقراطية والحرية والإصلاحات السياسية والشعب يريد رحيل وإصلاح وإسقاط وتغيير النظام، إلى غير ذلك من هتافات وشعارات حفظها الأطفال مسبقا وقد لا يدركون معناها وأبعادها؟ وهل يمكن تربية الأطفال على تجنب العنف في مجتمع مليء بمشاهد وأحداث العنف والقتل؟

لم تعد الكثير من الأسر تهتم بمسألة تجنيب أطفالها المشاركة في المظاهرات، بما فيها من مشاهد وأحداث عنف؛ لأن هذه الأحداث والأخبار أصبحت تحيط بالجميع وتكاد تكون يومية، إلا أن الخطورة في هذه المشاهد والأحداث أنها تؤثر على الأطفال تأثيرا داخليا نائما لتشكل جزءا من شخصياتهم، ولتنعكس سلبا على تصرفاتهم وسلوكياتهم واتجاهاتهم، مسببة خطرا على حاضرهم ومستقبلهم؛ حيث تترسخ هذه المشاهد والصور المؤلمة في نفوس الأطفال ثم تترجم بطرق وأساليب مختلفة إلى سلوكيات ومشاعر وميول واتجاهات سلبية عنيفة وعدوانية فيمن بينهم قد تظهر في ممارساتهم وأنشطتهم المختلفة.

يقول علماء النفس: إن ظهور الاستجابات العدوانية في سلوك ملاحظ يحتاج إلى وقت وبيئة وموقف خارجي حتى تمكن ملاحظتها، وقد لا تظهر إلا بعد سنوات؛ فهناك ظاهرة فريدة في السلوك البشري، تعرف عليها كل من عالمي النفس جيروم كاغان وهوارد موس في الستينات، وهي ظاهرة «التأثير النائم» (sleeper effect)، وتعني أنه قد تكون هناك مؤثرات معينة أحدثت تأثيرها في الطفل، لكن نتائج هذا التأثير لا تظهر لنا مباشرة، فيظل نائما لفترة طويلة ينتظر عوامل خارجية وداخلية في الطفل، توقظه ليظهر، فقد يظهر في مرحلة المراهقة، أي بعد حدوث التأثيرات بسنوات عدَّة.

فرؤية الأطفال لنماذج ومواقف وأحداث عنف وعدوانية يمكن أن تزيد من السلوك العدواني فيمن بينهم، وتؤثر في اتجاهاتهم وتؤدي بهم إلى القول إن المظاهرات والعنف والعدوان ما هي إلا طرق وأساليب فعالة ومقبولة لحل الكثير من المشكلات والصراعات.

يقول أصحاب نظرية التعلم الاجتماعي: إن معظم السلوك العدواني متعلم من خلال الملاحظة والتقليد؛ حيث يتعلم الأطفال السلوك العدواني من خلال ملاحظة نماذج وأمثلة من السلوك العدواني في البيئة المحيطة بهم؛ حيث يتعلم الطفل منها استجابات جديدة، وتقليد هذه السلوكيات ومحاكاتها، خاصة عند إثارة الطفل بالهجوم الجسدي أو بالتهديدات أو بالإهانات اللفظية.

لهذا فقد أصبح من المهم والضروري تجنيب أطفالنا وأجيالنا الناشئة المشاركة في المظاهرات أو ضمان سلامتهم وأمنهم وعدم التعرض لهم، على أن نقدم لهم منذ الصغر دروسا وممارسات فعلية عملية حقيقية في حرية التعبير عن الرأي وحب الوطن والمواطنة الحقيقية، تنمو بمرور الزمن لتشكل شخصياتهم وليتعلموا من خلالها أساسيات المشاركة السياسية والتعبير عن آرائهم واتجاهاتهم في حرية وأمان وكذلك التحكم في انفعالاتهم من دون إيذاء وإضرار بأنفسهم أو بالآخرين وبالممتلكات. ومن المهم أيضا تصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة لدى الأطفال والأجيال الناشئة ومحو الصور الذهنية السلبية التي علقت بأذهانهم أثناء مشاركتهم في المظاهرات، وتصحيح مفهوم ثقافة التظاهرات وإبراز إيجابياتها وسلبياتها والتأكيد للأطفال أن التعبير عن الرأي وتحقيق مطالبهم المشروعة العادلة واستجابة الحكومات والأنظمة لها لن تكون بالمظاهرات وإنما عبر الحوار والقنوات الشرعية، حرصا على صحة وسلامة أبنائنا ومستقبل وأمن الوطن والمواطن.