الوجبات اليومية الرئيسية تختفي.. و«طقس» تناول الطعام العائلي في خبر كان

دراسة ألمانية حديثة تحذر من مخاطرها.. والاعتماد عليها يسبب ضمور الدماغ

أحد أهم اتجاهات التغذية في العقدين الماضيين عدم انتظام تناول الوجبات الرئيسية، وقال 52 في المائة من الألمان إنهم ليس لديهم الوقت الكافي لبرمجة أوقات تناول الغذاء
TT

لخص الباحث الألماني ينز لونيكر، من معهد «راينغولد» في كولون، التغيرات غير الصحية التي طرأت على أسلوب تغذية الألمان في العقود الأخيرة كالآتي: لا وقت ثابت لتناول وجبات الطعام الرئيسية، لا ثقافة تناول طعام عائلي بشكل مشترك، ولا اهتمام بالطبخ وبالمهارات «الطبخية» للفرد. وحذر الباحث بالقول إن الاستمرار على مثل هذه التغذية سيعزز نسب الإصابة بالبدانة والسكري وضغط الدم والبلادة معا.

واعتمد لونيكر في تقديراته على دراسة شاملة أجراها معهده بتكليف من شركة «نستله» المشهورة، وتابعت عادات وتقاليد الغذاء بين ملايين الألمان من مختلف الأعمار والمشارب والولايات. وأحصت الدراسة أن الألماني يخصص ساعة و43 دقيقة يوميا كمعدل لتناول الطعام والشراب. ولاحظت الدراسة أن هذا الزمن الطويل نسبيا، المخصص للتغذية، لا يعكس الحقيقة، لأن تناول وجبات الطعام يجري في الحقيقة على منضدة العمل، بين الملفات، أو أمام الكومبيوتر. وغالبا ما تفقد العلاقة بين تناول الطعام والتلذذ به، وإتاحة الوقت للجسم للاستفادة من المواد الغنية المتوفرة في الوجبات.

ويبدو أن إيقاع الحياة اليومية لملايين الأوروبيين، وليس في ألمانيا فقط، يسير كالآتي: قهوة سريعة مع الحليب للفطور، سندوتش جاهز مع زجاجة كوكاكولا للغداء، وبيتزا مجمدة من الثلاجة مع أصابع البطاطا والكثير من الموالح عند المساء.

وهذه الحال ما عادت استثنائية، وتحصل في أيام العمل فقط، لأن أيام عطلة نهاية الأسبوع تسري بذات الإيقاع، وتحول الاستثناء إلى قاعدة عامة تمس حياة الملايين من البشر في المدن الصناعية. باختصار، تقول الدراسة، إن الفرد ما عاد يمتلك الوقت الكافي لتغذية نفسه بالشكل السليم.

أحد أهم اتجاهات التغذية في العقدين الماضيين عدم انتظام تناول الوجبات الرئيسية، وقال 52 في المائة من الألمان إنهم لا يمتلكون الوقت الكافي لبرمجة أوقات تناول الغذاء، كما أنهم لا يمتلكون فترة استراحة واضحة من العمل اليومي. الأدهى من ذلك أن 43 في المائة من الألمان اعترفوا بأنهم ما عادوا يتناولون وجباتهم الرئيسية إلا عندما يتوفر لهم الوقت. بمعنى آخر أنهم ما عادوا يشعرون بالجوع بسبب انشغالهم وشدة العمل. أما نسبة الألمان الذين يحافظون على برنامج غذاء يومي ووجبات غذاء منتظمة فما عادت تزيد عن 20 في المائة.

خبيرة التغذية في معهد «راينغولد» قالت إن من يتناول وجبات طعامه الرئيسية بشكل غير منتظم يبعث الاضطراب في عملية «الاستقلاب» داخل جسده. فللجسد ساعة بيولوجية معينة، وعند اضطراب هذه الساعة، بسبب عدم انتظام التغذية، يفشل الجسم في استخلاص وتمثيل المواد الأولية المفيدة في الطعام. ثم إن التوقف عن الأكل لفترة 6 ساعات أو أكثر يعني إصابة الإنسان بجوع شديد، وهذا يعرقل استهلاك الدهون الزائدة في الجسم. فجسم الإنسان يحتاج إلى وجبات طعام منتظمة كي يستطيع بينها استهلاك المخزون من الطاقة فيه، وثبت أن الوصول إلى درجة الجوع الكبيرة يفسد هذه العملية. هذا يشبه عملية الأكل المستمر عند البعض، على الرغم من أنهم لا يشعرون بجوع حقيقي، فهؤلاء يجازفون بفقدان الشهية للطعام.

الميل الآخر الضار هو أن الدراسة كشفت أن الكثيرين يستبدلون بوجبات الطعام الرئيسية وجبات صغيرة مستمرة، على الرغم من عدم وجود مرض يفترض ذلك مثل السكري أو قرحة المعدة. والمشكلة هنا أن هذه الوجبات الصغيرة غالبا ما تكون سندوتشات ملغومة بالدهون (الهمبرغر) أو قطع المعجنات والشوكولاته. وظهر من الدراسة أن 66 في المائة من الشباب تحت سن 30 سنة يستبدلون بالوجبات الرئيسية هذه السندوتشات. وهذا لا يعني شحن الجسم المستمر بالسعرات الحرارية والدهون فحسب، وإنما منع الجسم من استخدام خزين الدهون لديه، والنتيجة هي السمنة أو البدانة المفرطة.

ثم إن الدراسة تتحدث عن انقراض «طقس» تناول الطعام المشترك في العائلة. وبعد أن اقتصر الطعام العائلي المشترك في العقود السابقة على وجبة العشاء امتدت الفردية في الأكل لتشمل المساء أيضا.

وواقع الحال أن العائلة قد تكون مجتمعة في المنزل، لكن الابن يأكل بينما يلعب بألعاب الفيديو في غرفته، البنت منهمكة بالأكل وهي تتحدث مع زميلاتها على صفحات الإنترنت في غرفتها، بينما يشاهد الوالدان في الصالة فيلما في التلفزيون وهما يتناولان البيتزا والهمبرغر وأصابع البطاطا.

وتتعمق المشكلة بالطبع حينما تترافق فوضى التغذية، وكثرة السعرات الحرارية، مع تفاقم ظاهرة الكحول. إذ ثبت أن البدانة والسكري أخطر أحيانا من الكحول والتهاب الكبد الفيروسي في التسبب في تشمع الكبد. كما يمكن للكبد أن يتشمع بسبب البدانة، وإن كف تماما عن تعاطي الكحول.

وتشير الكثير من الدراسات الطبية حول تشمع الكبد إلى أن 33 في المائة من غير الكحوليين الذين يعانون من تشحم في الكبد يصابون لاحقا بالتشمع. وبالنظر لانتشار ظاهرة البدانة هذه الأيام في دول الغرب الصناعية فقد زادت أكباد الناس في هذه البلدان عرضة للالتهابات والتشمع. وتقدر الإحصائيات أن 10 في المائة من سكان أوروبا والولايات المتحدة يعانون من تشحم الكبد لأسباب لا علاقة لها بتعاطي الكحول أو الإصابة بالتهابات الكبد الفيروسية. ويصاب ثلث المعانين من التشحم في هذه البلدان بتليف الكبد بعد فترة من استمرار التشحم.

وكتبت مجلة «أمراض الهضم» في عددها الأخير أن انتشار البدانة والسكري بين سكان البلدان الغربية، وبالتالي انتشار تشحم الكبد بينهم، يدفع المختصين للبحث عن استراتيجيات جديدة وكفيلة بوقف تحول التشحم إلى تليف.

ويعتقد الباحثون أن تشحم الكبد الناشئ عن غير الكحول والالتهابات الفيروسية يجري في مرحلتين؛ يرتفع مستوى الأحماض الدهنية في خلايا الكبد في المرحلة الأول، وهذا يقود إلى تشحم الخلايا وجعلها بالتالي أكثر حساسية لتقبل المرحلة الثانية. ويقول العلماء إن كيفية نشوء آلية المرحلة الثانية ما زالت غامضة بعض الشيء، لكن أصابع الاتهام تشير إلى عدة عوامل تلعب دورها في هذه «الميكانزم». من هذه العوامل السموم الباطنية، راديكالات الأكسجين، وعملية فوق أكسدة الدهون والسايتوكين. وبرأي العلماء الألمان تقود هذه العوامل إلى التهاب خلايا الكبد، ومن ثم تليف أنسجته. كما يضع الأطباء جملة عوامل أخرى قد تكون مسببة أو مساعدة في عملية التليف، مثل تعاطي الكحول وتناول بعض الأدوية الضارة بالكبد أو الالتهابات الناجمة عن البكتيريا المتعايشة في الأمعاء الدقيقة.

المهم أن ظاهرة الاعتماد على الوجبات السريعة والجاهزة لا تؤدي إلى السمنة فحسب، وبالتالي إلى تشمع الكبد، بل إلى ضمور الدماغ أيضا. وذكر البروفسور توم ثومبسون، من جامعة لوس أنجليس، أن الوجبات السريعة تجعلنا أغبياء.

وتوصل ثومبسون إلى هذه النتيجة بعد دراسة قارن فيها بين أدمغة بدناء تسببت الوجبات السريعة والجاهزة في سمنتهم، وعقول بشر رشيقين ينظمون وجبات طعامهم ويعتمدون الدقة في برمجة محتويات غذائهم. واستخدم الباحث أجهزة مسح الدماغ بالرنين المغناطيسي لمراقبة نمو حجم الدماغ، والمناطق التي تتضرر نتيجة «سموم» الوجبات الجاهزة.

اتضح من المقارنة أن أدمغة متعاطي الوجبات السريعة والجاهزة تقلصت خلال عشر سنوات مقارنة بأدمغة المجموعة الثانية. ولحق الضرر الخلايا المسؤولة في دماغ الفرد عن اتخاذ القرارات، وهو ما يشير إلى دور هذا النوع من الأغذية في سلب الإنسان إرادته ومقاومته لهذا النوع من الأغذية.