الرسام إبراهيم العبدلي يستحضر بغداد الملونة في معرضه اللندني

قال لـ «الشرق الأوسط»: لن أتخلى عن أسلوبي الواقعي فهو هويتي الفنية

TT

بإصرار الفنان المبدع، يتمسك الرسام العراقي إبراهيم العبدلي بالمدرسة الواقعية في تنفيذ أفكاره على سطوح لوحاته، حتى إن أسلوبه بات متداخلا في الذاكرة الصورية للمتلقي، فهل هذه هي مدرسته التي ابتكرها هو (المدرسة العبدلية)، أم أن هذه هي الواقعية كما نعرفها في الفن التشكيلي؟

في ذلك، يؤكد العبدلي هذا الإصرار قائلا «أنا فنان واقعي، وبقيت وما زلت وفيا للمدرسة الواقعية الحديثة منذ أن تخرجت في أكاديمية الفنون الجميلة عام 1965 وحتى الآن»، وعلى الرغم من التيارات الحديثة العاصفة في أساليب الفن التشكيلي، فإن العبدلي استطاع الصمود في وجه هذه الأساليب ليؤكد ذاته من خلال واقعيته الجديدة، ويوضح قائلا «أنا أعتز بالبقاء على مدرسة أو أسلوب واحد ولم أغير من أسلوبي، واستطعت الصمود وعدم الانجراف إلى أساليب أو تيارات أخرى، لكنني أجدد في الموضوع واللونـ وأكون مجددا ضمن مدرستي الواقعية، وغالبية أبناء جيلي، جيل الستينات، أبقوا على أساليبهم، سواء كانت تجريدية أو انطباعية أو غيرها من الأساليب».

وبعد العشرات من المعارض الشخصية والمشتركة التي توزعت على جغرافيا العالم العربي، يقيم الرسام العبدلي معرضه الشخصي الأول بالعاصمة البريطانية لندن، على الرغم من أنه كان قد حصل على شهادة الماجستير في الفنون من مانشستر بوليتكنيك، عام 1980، لكنه فاجأ الجمهورين العربي والبريطاني بمعرضه الشخصي المقام حاليا بصالة مؤسسة الحوار الإنساني وسط لندن، والذي استحضر فيه وعبر ما يقرب من 20 لوحة زيت على القماش، مشاهد بغداد الملونة التي كسرت حدة قتامة الألوان اللندنية.

ينتمي العبدلي إلى جيل الستينات في حركة الفن التشكيلي العراقي، وهو جيل يؤمن بأن الفن رسالة موجهة إلى جمهور المتلقين، يقول: «أنا تمسكت بالأسلوب الواقعي، كون الفن بالنسبة لي هو رسالة موجهة للمتلقي، وأنا أريد لهذه الرسالة أن تصل وأن يستوعب المتلقي مضمونها، بينما التجريديون، مع احترامي لهم، لا يستطيعون إيصال أي رسالة، الموضوع عندهم مبهم، كما أن أعمالهم لا تستطيع أن تعبر عن الواقع الراهن أو تناقش هموم الناس، فأنا مثلا جسدت في أعمال واقعية موضوعات الحرب مثل الحرب العراقية - الإيرانية، وذلك من خلال لوحة تجسد عادة شعبية عراقية، وهي أن الأم أو الزوجة عادة تلقي بالقليل من الماء خلف ابنها أو زوجها عندما يخرج مسافرا أو في مهمة، والماء هنا تفاؤلا بعودته سالما، لهذا رسمت جنديا عراقيا يحمل حقيبته ويخرج من البيت للالتحاق بجبهات القتال بينما أمه تلقي الماء خلفه، وفي تجسيدي للحرب الأخيرة 2003، رسمت دراجة هوائية وضع صاحبها عليها صندوقا من التمر العراقي الطازج بينما اختفى راكبها، وهناك عن قرب توجد عربات هامر أميركية، في إشارة مني إلى أن صاحب الدراجة المفقود في اللوحة ضحية قوات الاحتلال، قد يكون ألقي القبض عليه من قبل القوات الأميركية أو ربما قد قتل من غير أن نشاهد آثار دم، فأنا أكره مشاهد القتل والدماء بشدة. أما عما مر به العراق من خراب، فقد شبهته بعربة محطمة، لكن الحصان العراقي الذي يجرها رسمته واقفا بشموخ وبقوة، في دلالة على أن العراق قوي وأن ما حدث له مجرد مرحلة وسيعود بعدها البلد معافى، هذا لا يستطيع الرسام التجريدي تجسيده، فالتجريد يمكن أن يخدم اتجاهات في تصميم الديكور أو الأزياء».

كان الفنان الراحل جواد سليم قد أسس مع فائق حسن وعدد من الفنانين (جماعة بغداد للفن الحديث)، خاطين لهم أساليب مبتكرة ومتخذين من الموضوع البغدادي التراثي عناوين لأعمالهم. العبدلي انتمى إلى هذه الجماعة متأخرا، بعد رحيل سليم، يقول: «أنا انتميت إلى (جماعة بغداد للفن الحديث)، كوني أرسم بغداديات، لكنني - للأسف - لم التق الفنان جواد سليم، لأنني تخرجت في الأكاديمية بعد رحيله، وكنا كجماعة نلتقي باستمرار لنتحاور في الأساليب والمواضيع الفنية».

طيور الحمام تحلق في فناء البيت، عربات تجرها الخيول وبأوضاع مختلفة، جسور بغداد، نهر دجلة وضفافه، ومشاهد أخرى من المدينة التي ولد وعاش بها العبدلي، هذا ما يرسمه الفنان إضافة إلى فن البورتريه، بورتريه لشخصيات عامة، الملك فيصل الثاني، والشاعرين محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي، وشخوص أخرى جسدتها لوحاته.

وينظر العبدلي إلى تميزه بأسلوب مميز على أنه نوع من الهوية الفنية، بل يسميها «الأصالة التي يتمتع بها الفنان، فعندما يتعرف المتلقي على الفنان من خلال اللوحة بسبب الأسلوب واللون ومن غير أن يقرأ التوقيع، فهذا يعني أن الفنان أصيل».

«أنا أرسم ما ترصده عيني وذاكرتي من مشاهد حياتية، مثل لوحة الجندي الذاهب إلى الجبهة، على الرغم من أن هذا الموضوع تراثي شعبي إلا أني شاهدته في أحد أحياء بغداد ورسمته، لأني أردت أن أرسم الجندي بعين متفائلة».

في معرضه المقام حاليا بلندن، احتشد عدد كبير من الجمهور العربي، العراقي خاصة، والبريطاني، وقفوا متأملين أعمال هذا الفنان التي أحالت البعض ممن عرفوا بغداد في عز ازدهارها، إلى زمن آخر، زمن مضى، بينما رسم الشباب منهم صورا ملونة عن مدينة قد لا يتذكرون ملامحها جيدا فهم تركوها وهم أطفال، ولكن كيف هي بغداد اليوم بعيدا عن ألوان لوحات العبدلي؟ يقول: «ذهبت إلى بغداد مؤخرا وأقمت معرضا هناك في غاليري بشارع أبو نواس، والمشاهد محزنة حيث العمارة البغدادية الأصيلة في أبو نواس والبتاويين وشارع الرشيد تتهدم ولا أحد يرعاها! هذا بسبب سيطرة الريفيين من الحكام على هذه المدينة الحضارية المتألقة»، معربا عن أمنيته أن «أرسم جدارية ضخمة في إحدى ساحات بغداد، فهذه مدينتي الأثيرة إلى روحي».