ترميم متحف دريسدن والأعمال الفنية فيه

مبالغ طائلة لترميم أعمال الفنان الإيطالي برناردو بيللوتو

TT

يحتفظ متحف مدينة دريسدن، وهي من أهم مدن ألمانيا في العصر الروماني الباروكي المتأخر، بـ35 لوحة من أعمال الفنان الإيطالي الشهير «كاناليتو». وهي أكبر وأهم أعمال الفنان المذكور، وخصوصا لوحة «مشهد الألبة» التي أثارت زوبعة في فنجان متحف البيرتنام قبل أسابيع.

الفنان الكبير برناردو بيللوتو، الذي كلفه الملك السكسوني فريدريش أغسطس الثالث، برسم هذه اللوحات للمدينة الأثرية في دريسدن في القرن الثامن عشر، أخذ الاسم المصغر «كاناليتو» عن عمه الفنان الكبير جيوفاني أنتونيو كانال، ولم يكن يعرف أن اسمه «كانال» (ويعني قناة) سيرتبط بمسببات تلف المتحف، والمدينة الأثرية في دريسدن كلها، بسبب شح «قنوات» المياه اللازمة لتصريف مياه الفيضان إذ أدى فيضان نهر الألبة في موسم الشتاء الماضي إلى إصابة المدينة الأثرية في دريسدن كلها بالتلف وتنشغل بلدية المدينة السكسونية حاليا بترميم مبانيها.

وتشمل الترميمات أبنية ومحتويات كنيسة «فراونكيرشة»، وكنيسة «هوف كيرشة»، ومبنى البلدية القديمة، ورواق «بروليشة تيراسة» ومعظم متاحف المدينة الممتدة بين متحف المدينة الرسمي ومتحف البورسيلان ومبنى «تزفنجر» ومتحف البيرتنام. والمعروف عن عاصمة ولاية سكسونيا الحالية (دريسدن) أنها دخلت التاريخ الألماني مرتين من أوسع أبوابه، المرة الأولى حينما بنى فيها الملك أغسطس الثالث أول مجمع للقصور وخصصها للفن، وليس لسكناه، كما فعل بقية الملوك، والثانية حينما تعرضت لأعنف وأكبر قصف جوي بريطاني - أميركي خلال الحرب العالمية الثانية.

الرطوبة التي رافقت الفيضان، والتي تسللت من الأساسات إلى اللوحات المعلقة على الجدران، ومن ثم إلى السقوف، ألحقت أضرارا بالأعمال الفنية لكاناليتو أيضا. كانت المدينة قد احتفلت بالانتهاء من ترميم الأعمال وإعادة عرضها في أغسطس (آب) الماضي بعد أن تعرضت لتلف مماثل جراء فيضان 2002 الذي يعتبر الأفظع من نوعه منذ القرن الثامن عشر. وواقع الحال أن الملك فريدريش أغسطس، والملوك الذين ورثوه، بنوا شبكة من التجاويف والأقنية حول وداخل المدنية بهدف تصريف مياه الفيضانات، إلا أن هذه الأقنية لم تكن كافية تحت قلب المدينة السياحية الأثرية، وربما يقع على الحكومة المحلية الحالية في دريسدن معالجة الأمر بما يضمن عدم غضب الأمم المتحدة عليها جراء تقصيرها في الحفاظ على قلب المدينة الذي اعتبرته اليونيسكو إرثا تاريخيا للبشرية. وستحاول المدينة مستقبلا توسيع شبكة أقنية الفيضان، ووضع حواجز رادعة للمياه تحت الأرض، وأخرى رادعة للثلوج في الشتاء في الأعلى.

ومن معالم دريسدن البارزة هو «تزفنجر»، الذي يعتبر وحدا من أهم معالم العصر الباروكي في العالم وفخر سكسونيا وألمانيا ككل. صرح فني عظيم من عمل المعماري الكبير ماتيوس دانييل بولمان (1662 - 1736) والنحات بالتزار بريموزر (1651 - 1732)، وتعني كلمة «تزفنجر» بالألمانية «القاهر» أو «الفناء الخارجي»، بمعنى «المانع»، وتأخذ المفردة معنى «المستبد» أو «الطاغية» حينما ترفق بكلمة «هر» التي تعني «السيد»، ويبدو أن للاسم علاقة بالموقع، لأنه كان جزءا من القلعة القديمة التي أريد بها «قهر» الغزاة وردعهم عن المدينة.

وذكرت رئيسة أعمال إعادة الترميم أن المدينة ستنتهي من ترميم البيرتنام، بضمنها لوحات كاناليتو في فترة أقصاها يوم العنصرة، أي 12 يونيو (حزيران) المقبل. وسيتم تجفيف المناطق التي بلغتها الرطوبة، وتسحب الأملاح منها، وترمم الأعمال الفنية المتضررة. وسيكلف ترميم الجدران نحو 121 ألف يورو، وترميم السقف 92 ألف يورو وترميم لوحات كاناليتو مبلغا غير معروف، لكن جمعية رعاية اللوحات في دريسدن، واسمها «ساكسوميسيز ازوي» جمعت حتى الآن مبلغ 10 آلاف يورو من متبرعين وتواصل جمع المزيد.

وثارت ثائرة الجمعية المذكورة قبل أسابيع حينما جرى حديث عن إعارة لوحة «مشهد دريسدن»، وهي لوحة تظهر جانبا من المدينة ونهر الألبة، إلى برلين. إذ شاهد الملايين اللوحة وهي معلقة في مكتب رئيس الجمهورية في قصر «بيليفو» مع تعليق التلفزيون الذي ذكر أنها اللوحة الأصلية.

حلقة داعمي الحفاظ على أعمال بيللوتو انتقدت إدارة المتحف على إعارة اللوحة. وقالت ماريا كيرشة، التي تجمع التبرعات من الناس باسم الحلقة، بأنه ليس من حق أحد، وإن كان رئيس الجمهورية، تعليق «أهم أعمال كاناليتو» في مكتبه. مشاهير الكتاب والفنانين في دريسدن شاركوا في النقد، بينهم مغني الأوبرا رينيه بابه، والرسام جورج بازيليتز والكاتب أوفة كامب.

ولم تنته الزوبعة من الدوران في فنجان متحف مدينة دريسدن إلا بعد تصريحات رئيس المتحف، والباحث الفني التاريخي برنهارد مومز، الذي كشف عن أن كاناليتو رسم أربع نسخ من لوحة «مشهد دريسدن» كلها أصلية. وقال مومز إن اللوحة المعلقة في قصر الرئاسة «بيليفو» هي نسخة حقيقية مصغرة عن الأصلية رسمها كاناليتو لموظف ما في مدينة دريسدن قبل نحو 200 عام وسبق أن كانت معلقة في مكتب رئيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية الراحل ايريش هونيكر. واللوحة أصغر من الأصلية، التي ما زالت معلقة في دريسدن، بنحو الثلث.

نسخة أخرى من اللوحة رسمها كاناليتو لأمير منطقة برول (غرب ألمانيا) وموجودة حاليا ضمن مجموعة أعمال يمتلكها ثري إسباني من مدريد. كما أن هناك نسخة أخرى رابعة أصغر رسمها الفنان الإيطالي وتوجد حاليا في المتحف الوطني في دبلن.

وهدأ هذا التصريح خواطر المعنيين بالفن تجاه نيات المتحف، إلا أنه لم يهدئ خواطرهم بعد تجاه الإجراءات المتخذة لوقاية المتحف من غضب نهر الألبة.

جدير بالذكر أن دريسدن تعرضت عام 1944 إلى قصف هائل من قبل الحلفاء أودى بنحو 60 في المائة من مباني المدينة التاريخية. وشمل الدمار الكلي منطقة قطرها 15 كم داخل مركز المدينة وأبنيتها المتميزة. وانتهت أعمال الترميم في ألمانيا لشرقية عام 1985، لكن ترميم كنيسة «فراونكيرشة» لم يتم إلا بعد الوحدة الألمانية، لأن الدولة الاشتراكية كانت قد قررت حينها عدم ترميم الكنيسة والاحتفاظ بها كتذكار على القصف الوحشي الذي تعرضت له إحدى أجمل المدن الألمانية.