جدة تودع عمدة أدبها وحادي تراثها «محمد صادق دياب»

الأمير فيصل بن سلمان يشيد بنزاهة ومهنية الفقيد * اعتز بكونه «أبو البنات» في آخر مقالاته وسابق الزمن لإصدار آخر رواياته «مقام حجاز»

الراحل محمد صادق دياب («الشرق الأوسط»)
TT

فقد التاريخ الحجازي، أمس، أحد أشهر أعمدته، الكاتب والأديب محمد صادق دياب، عن عمر يناهز 69 عاما، وذلك في أحد مستشفيات لندن، بعد معاناة مع مرض السرطان.

مسيرة «أبو غنوة» الصحافية توجت بالإشراف على عدة مجلات وملاحق في الصحافة السعودية، ومن ذلك ترؤسه تحرير مجلتي «اقرأ»، و«الجديدة» (إحدى مطبوعات الشركة السعودية للأبحاث والنشر)، ومجلة «الحج والعمرة». كما عمل مديرا لتحرير مجلة «سيدتي»، ومديرا لمكتبها في جدة، وأشرف على الملحق الثقافي (الأربعاء) الذي تنشره صحيفة «المدينة» السعودية.

وبدأ دياب يطل بزاويته اليومية في جريدة «الشرق الأوسط»، متناولا فيها الشأن العام، مع إصرار على تناول الشأن الجداوي، بولع العاشق الذي كرس جل حياته لها، وتوج ذلك بكتاب «جدة التاريخ والحياة الاجتماعية»، الذي صنف فيه أبرز منعطفات جدة التاريخية بشخوصها ومبانيها وحضارتها التليدة.

وعرف عن دياب عشقه لمدينته جدة وتاريخها القديم، فلا يذكر التاريخ الجداوي، إلا ويذكر محمد صادق دياب كأحد المصادر المهمة للمعلومة عنها.

وكتب الكثير من المؤلفات منها «المفردات العامية بمدينة جدة»، و«امرأة وفنجان قهوة»، و«ساعة الحائط تدق مرتين»، و«16 حكاية من الحارة»، و«الأمثال العامية»، ومؤخرا أصدر روايته «مقام حجاز» التي يصفها المقربون منه بأنه صارع الزمن لترى النور.

وكان لدياب الكثير من الأنشطة الإعلامية والثقافية، حيث كان عضوا في نادي جدة الأدبي الثقافي، وعضو هيئة الصحافيين السعوديين، وعضو لجنة تحكيم جائزة منتدى جدة الاقتصادي للتميز الإعلامي، التي نظمتها الغرفة التجارية الصناعية بمحافظة جدة.

وأسهم في إعداد وتقديم الكثير من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، من أبرزها البرنامج الإذاعي «مشاهد وانطباعات»، الذي قدمته إذاعة جدة. وشارك في كتابة نصوص عدة أفلام روائية ووثائقية، منها فيلم «قافلة الحج»، الذي أنتجته المؤسسة الأهلية لمطوفي حجاج دول جنوب آسيا، بمناسبة احتفالها بمرور 25 عاما على تأسيسها.

من جهته أشاد الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز رئيس مجلس ادارة المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق بمهنية ونزاهة الفقيد محمد صادق دياب، وأشار إلى انه خبر ذلك عندما اوصى الفقيد في عام 2002 وهو كان يرأس تحرير مجلة «الجديدة» بأغلاقها لانه لاتوجد جدوى اقتصادية منها. وقال الأمير فيصل بن سلمان إن ذلك دليل على مهنية ونزاهة الفقيد وحرصه على مصالح المجموعة، فهو رئيس التحرير الوحيد حسب معرفتي الذي يوصي باغلاق مطبوعته بعدما رأى انها غير مجدية من الناحية الاقتصادية للمجموعة.

من جهته يقول الدكتور عاصم حمدان، أستاذ الأدب بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وهو الكاتب والأديب والصديق المقرب من محمد صادق دياب: «عرفته بداية من كتابته الأدبية والاجتماعية في الصحافة قبل 30 عاما وأكثر، فكان يمزج في تلك الكتابات بين الأدبي والشعبي بصورة مثيرة».

وأضاف حمدان متأثرا: «كان دياب قادرا بأسلوبه الرشيق على اجتذاب عدد كبير من القراء من مختلف الأطياف الأدبية والفكرية، ثم شاءت الأقدار أن أحل في مدينة جدة قبل نحو ربع قرن من الزمن، فالتقيت دياب في رحاب جريدة (المدينة)، ووجدته يتصرف بصورة عفوية وبسيطة، وكان في تلك السلوكيات يعكس ذلك الحس الإنساني والنقاء الفطري التي تنطوي عليه نفسه».

واستطرد حمدان: «وعندما أسندت إليه مهمة الإشراف على ملحق الأربعاء بجريدة (المدينة) رسم سياسة مهمة، وهي الابتعاد عن الأحادية والإقصائية وفتح أبواب ملحقه، كما فتح من بعد أبواب مجلة (اقرأ) و(سيدتي) ومجلة (الجديدة) ومجلة (الحج) التي أشرف عليها، حيث فتحها لجميع الآراء المتباينة، فضرب بذلك مثلا رائعا لحرية الرأي، وهو الأمر الذي لم يلتفت إليه الفرقاء إلا بعد حين من الزمن».

وواصل بقوله «قدم محمد صادق دياب صورة حية للمجتمع في (معشوقته) مدينة جدة من خلال مجموعته القصصية (16 حكاية من الحارة)، (ساعة الحائط تدق مرتين)، كما دون جانبا من تاريخ جدة الاجتماعي بأسلوب أدبي رفيع في كتابه الموسوم (جدة التاريخ والحياة والاجتماعية) وانعكس النفس الرومانسي بوضوح لديه في كتاب (امرأة وفنجان من القهوة) وكان في فترة خضوعه للعلاج في الغربة حريصا على إخراج روايته التي أعلم من خلال اقترابي منه أنه بدأ في كتابتها قبل مدة طويلة، وكان حريصا على إخراجها وهي رواية (مقام حجاز)، التي رأت النور مؤخرا».

ويؤكد الدكتور عاصم حمدان أن محمد صادق دياب كان قبل رحيله يسابق الزمن ليكتب ويبدع ويدون، فلم يفارقه حب الصحافة حتى آخر نفس من حياته. وقال: «واليوم برحيل (أبي غنوة) أفقد جزءا غاليا من نفسي وذكرياتي. رحم الله تلك الروح الطيبة والنفس النقية، لسان العصر وأسكنه الله فسيح جناته، وعزائي لأسرته وأهله وأصدقاء هذا الرجل الذي فقدناه جميعا (إنا لله وإنا إليه راجعون)».

ومن جانبه، لم يخف الفنان محمد عبده الحزن الذي اكتنفه منذ سماعه خبر وفاة محمد صادق دياب، وهو الذي التقاه الأسبوع الماضي في لندن، حيث كان يخفي الحزن والألم بابتسامة لكل من يقابله.

ووصف محمد عبده (أبا غنوة) بالصديق والموجه له في كثير من محطاته الفنية وحياته الشخصية ودائم التواصل معه بقوله «كان المرجع لنا في الكثير من القضايا الثقافية والشعرية، خصوصا فيما يخص الأمور التاريخية بمنطقة الحجاز، وكان خير شاهد لها، حيث كنا نلتقي في جدة، وكان محبا للمعالم التاريخية التي كنا نزورها سويا».

وهنا يقول بنبرة الحزن المهندس سامي نوار، رئيس بلدية جدة التاريخية، «فقدت جدة أهم رموزها العاشقين لها، فقد كان له الكثير من الكتابات والأصوات المنادية بالحفاظ على التراث الجداوي، وكان دائم الزيارة والوجود في المنطقة التاريخية، فهو العاشق الكبير لها، وهي حزينة على فراقه».

من جانبه قال العمدة عبد الصمد محمد عبد الصمد، إن الفقيد صديق منذ أيام الطفولة، عرف بأعمال الخير، مشيرا إلى أنه رغم مرضه، أرسل له رسالة يوم الجمعة الماضي يدعو فيها رب العالمين له بالخير والبركة والتوفيق والقبول، على الرغم من أنه أكثر من كان يحتاج من الدعاء في مرضه.

سامي الخميس، كاتب ورئيس تحرير مجلة «جدة»، صديق دياب منذ طفولته، قال إن علاقته بالفقيد ممتدة منذ الطفولة من المرحلة الابتدائية، وكان يعتبر من طفولته أكثر الناس شهامة ونخوة، وكان كريما في تعامله.

وأشار إلى وقوفه مع كل المبتدئين في كافة المجالات، فهو معطاء بلا حدود، لطيف المشاعر، ويعد معنيا بالوفاء والصدق، يتمتع بأخلاق الفارس بكل ما تعنيه الكلمة.

ومن المواقف التي لا ينساها الخميس، كيف كان دياب يتغلب ويعالج مشكلات الأصدقاء.

الدكتور محمد الحميدي من جانبه، قال: «رحم الله الأخ العزيز محمد صادق دياب، فقد أصاب الخبر شيئا من الجسد، إذ كان نعم الأخ والناصح والمرشد، وقد عرفته صاحب همة لا يركن إلى الدعة، ولا يعرف النصب أو الفتور، فقد علمته سباقا للخيرات، مسعفا لذوي الحاجات، وكان صاحب كلمة مدوية فيها الصدق والإخلاص ومحبا لجميع أصحابه مخلصا، كثير الدعابة البريئة، فلو أردت أن أكتب ما بداخلي عن الرجل لوجدت الأسطر قد ضاقت، والقلم قد جف، وأنا أعزي نفسي وأسرته وأسأل الله، جل وعلا، أن يجعله ممن سعد بلقاء ربه، و(إنا لله وإنا إليه راجعون)».

ومن يعرف محمد صادق دياب من الصغار أو الكبار يصفه بالصديق، فقد كان قريبا من الجميع، ولا يشعر الآخر بأي فوارق عمرية.

ويصف الكاتب والأديب حسن بافقيه وفاته بأنها صدمة ويقول: «كان الرجل طيبا على الرغم من فارق السن بيننا، وهو صديق الجميع، كريم للغاية، لا تشعر وأنت تتحدث إليه بأي فارق في العمر، فهو صديق الجميع، يأسرك ببساطته وتواضعه».

ويتذكر بافقيه وقفات دياب ويقول «التحقت بالتعليم قبل نحو 23 عاما، وكان حينها محمد صادق دياب مرشدا تربويا، لتخصصه في علم النفس، وكانت حينها أزمة الحداثة متفشية، وحدثت لي مشكلة حينها بسبب تضارب التيارات الأدبية والفكرية، وكان دياب من الشخصيات التي وقفت معي، وكان يمثل وقتها الضمير الثقافي الحي والمربي والأديب والإنسان، ولولا وقفته كنت سأضطرب في عملي ورزقي».

ويضيف بافقيه «على المستوى الشخصي كان أول من أخذ بيدي إلى عالم الصحافة بعد تخرجي في الجامعة، ومد يده لي لأعمل ضمن فريق ملحق الأربعاء، والذي كان يشهد أزهي عصوره، وكان الموجه، ولا ينسى المجتمع الجداوي الأدوار الثقافية والأدبية وبالذات بذاكرة جدة الثقافية، فهو جسر تواصل بين جيلين، وكان الأمين على ذاكرة جدة، والمحافظ على الموروث، وتربطه علاقات بالعمد والحارات القديمة والشخصيات المهمة في جدة، وأثرت شخصيته المحبوبة على الجميع، كما كان ذاكرة جدة المضيئة، حتى أصبح يلقب بعمدة مثقفي جدة».

وعرف عن الفقيد دعمه للإعلاميين الشباب، ويدين له الكثيرون بالفضل بعد الله في بروزهم، إذ لم يبخل بتقديم العون والمشورة لهم، وهو الأمر الذي أكده الكثير منهم، فيحكي غازي مهدي، المصور في «الشركة السعودية للأبحاث والنشر»، دخوله للمجال الإعلامي عن طريق هذا الرجل، والذي اشترى له كاميرا خاصة، وأسهم في تعليمه. ويتذكر غازي مهدي نصيحة دياب له في ذلك الوقت جيدا، عندما قال له «لماذا لا تعمل على تطوير قدراتك، وأنت شباب في مقتبل العمر، لماذا لا تبحث عن ذاتك، ووجهني لاحتراف مهنة التصوير الفوتوغرافي».

من جهته يصف محمد باناجه، الذي عمل سكرتيرا له خلال عمله كرئيس لتحرير مجلة «الجديدة» بأنه إنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وقال «خلال فترة عملي معه لم يتعامل مع أي من موظفيه تعامل المسؤول، وإنما تعامل الأب مع أبنائه، ويسعى لفعل الخير بكل ما يستطيع، سواء بما يقدمه أو لشفاعته للأشخاص لدى المسؤولين».

ويؤكد ذلك مهند الخياط الذي عمل معه كسكرتير لتحرير «اقرأ» ومسؤول لتحرير «الجديدة» بقوله: «أبسط ما يقال في هذا الظرف إننا فقدنا الطيبة في أجمل صورها، وعمدة الأدب بأخلاقه قبل حروفه، فهو الأخ والصديق والأستاذ ومن أقرب الناس إلي، وكنت أعد نفسي ابنا له قبل أن أكون زميلا صحافيا أو صديقا».

وواصل بقوله «علمنا الإنسانية في أنقى معانيها، وهو مرب ينطلق من خلفية تربوية إنسانية، لا أذكر أنني اختلفت معه إلا مرة واحدة، وقد اعتذر لي بكل تواضع وهو صاحب القامة العالية، كما شهدت ولادة كتابه عن جدة، ورافقته خلال جمع بعض المعلومات، إذ كان حريصا على أداء عمله والتقاء الكبار والأعيان بنفسه، ويعرف أبناء الحارة الصغار قبل الكبار».

أصدقاء الفقيد وجيرانه، رغم أنهم كانوا يعلمون بمرضه، فإن الجميع وصف فقدانه بالصدمة. الدكتور عدنان اليافي، الكاتب بصحيفة «المدينة»، والصديق المقرب من الفقيد قال «محمد صادق دياب من أفضل من قابلت في حياتي، يجمع الناس على حبه، والجميع يعزون أنفسهم على وفاته، وكان محبا للناس وفعالا للخير».

واستطرد اليافي «أحد المواقف المؤثرة في حياة الفقيد عندما فتح بيته لقريباته ممن ضاقت بهن الظروف».

وقد تناول الراحل التاريخ الاجتماعي والعمراني لمدينة جدة، في كثير من كتبه ومقالاته الصحافية، وهذا الاهتمام الكبير يتضح من خلال روايته الأخيرة «مقام حجاز» التي حرر آخر سطورها وهو على فراش المرض.

كما أن عمق الأديب والكاتب الراحل في جدة وما يتعلق بجدة، تعدى مجرد التعريف الاجتماعي لتاريخ المدينة، وذلك عندما كتب عن دهاليزها وأزقتها الضيقة، وقدماء وأعيان سكانها، حتى أنه أفصح مرات أنه ينوي إخراج عمل روائي عن «خواجة يني»، وهو اليوناني الذي كان يبيع الجبن والمواد الغذائية في أول بقالة من نوعها في جدة، وذلك على ضفة شارع قابل المعروف بمنطقة البلد، ليضرب بذلك واحدا من أروع أمثلة التعايش التي عرفتها جدة.

ذلك الشغف التاريخي بمدينته وثقافته، أعطى محمد صادق دياب مجدافا في يد وقلما في اليد الأخرى، فأبحر الراحل وكتب في مختلف الفنون، فمخر عباب بحور السياسة والفن والفكر والدين والأدب، حتى أصبح لمقالاته طعم ولون ورائحة لا تعد خلطتها السرية إلا بين أنامله.

آخر تلك المقالات كان مقاله الذي نشرته «الشرق الأوسط» في زاويته وحمل العنوان «أبو البنات» وهو اللقب الذي حمله محمد صادق دياب منذ إنجابه ابنته الكبرى «غنوة» والتي أعقبها إنجاب شقيقتين لها، متسائلا في مقالته الأخيرة «هل يعاني أبو البنات من أزمة نفسية في ظل ثقافة ذكورية أول ما يسأل فيها الأب عن اسم مولوده لتكتمل هويته الشخصية الاجتماعية؟».