محمد دياب.. عاشق جدة

رحل بجسده وسيبقى بأفعاله

محمد دياب يؤدي رقصة المزمار في إحدى المناسبات («الشرق الأوسط»)
TT

قصة محمد صادق دياب قصة طويلة يصعب الحديث عنها في سطور أو صفحات، بدأت منذ مولده، لكنها لم تنته بموته يوم أمس على سرير مستشفى لندني، إذ إن أمثاله ممن تركوا إرثا ثقافيا وإنسانيا يظلون خالدين في النفوس والقلوب بأفعالهم وسجاياهم. فمحمد صادق دياب الذي ولد في جدة في الثاني والعشرين من يوليو من عام 1944م، أو كما يحب أن يسميه عشاقه والمقربون منه «أبو غنوة»، رجل سخر صحافته لمعشوقته جدة. وبر بها منذ فتح عينيه عليها وحتى يتلحف ترابها بعد غد حسب ما تقرر دفنه فيها.

ونال أبو غنوة درجة الماجستير في علم النفس التربوي من جامعة «وسكنسن» الأميركية عام 1976 ويحمل دبلوما عاليا في الإدارة التربوية من جامعة «أوكلاهوما» عام 1975، وبكالوريوس في التربيّة وعلم النفس من كليّة التربيّة بمكَّة المكرَّمة عام 1970.

ولمن لا يعرف دياب، فقد تدرج في مختلف الأعمال والشرائح، إذ عمل في حقل التعليم بين عامي 1970 و1993م، معلما ومحاضرا في كليّة المعلمين بمكَّة المكرَّمة، ثم مديرا لتوجيه الطلاب وإرشادهم بالإدارة العامّة للتعليم بالمنطقة الغربيّة.

وعلى الرغم من كل هذه الخبرة التراكمية في كل المجالات التعليمية وشغله لعدة مناصب كان آخرها رئيسا لتحرير مجلة «الجديدة»، إلا أنه لم يتخل عن عشقه الحقيقي جدة التي ظل ينافح ويناضل من أجلها، وحرص على أن يسجل تاريخها عقدا عقدا وشارعا شارعا عبر مؤلفاته التاريخية والاجتماعية، ومنها «المفردات العامية بمدينة جدة»، و«جدة.. التاريخ والحياة الاجتماعية»، و«16 حكاية في الحارة»، و«الأمثال العامية»، وغيرها.

وعندما يكون الفراق، يحضر المقربون، الذين عملوا مع أبو غنوة، مثل مهند خياط سكرتيره الذي يقول إنه كان يلازم محمد صادق دياب أثناء كتابته كتابه عن جدة. ويقول: «لقد كان ينزل إلى الشارع ويتقصى معلوماته من مصادرها من كبار السن والمؤرخين».

وفي المجال الإعلامي ظل محمد صادق دياب، الذي أدار تحرير عدد من المجلات السعودية خلال مسيرته الصحافية، وفيا لمهنته إلى آخر سويعات عمره، ولعل تسليم روحه هناك في عاصمة الضباب، قريبا من مقر «الشرق الأوسط» التي احتضنت صفحاتها آخر مقالاته خلال السنوات الماضية.

وقد رأس دياب تحرير عدة مجلات سعودية من بينها «اقرأ»، و«الجديدة»، ومجلة «الحج والعمرة». وقد عمل مشرفا على ملحق الأربعاء بجريدة «المدينة»، ومديرا لتحرير مجلة «سيدتي»، ومديرا لمكتبها في جدة. وكان لدياب كثير من الأنشطة الإعلامية والثقافية؛ فكان عضوا في نادي جدة الأدبي الثقافي وعضو هيئة الصحافيين السعوديين، وعضو لجنة تحكيم جائزة منتدى جدة الاقتصادي للتميز الإعلامي، الذي نظمته الغرفة التجارية الصناعية بمحافظة جدة، وأسهم في إعداد وتقديم العديد من البرامج الإذاعيِّة والتلفزيونيِّة، من أبرزها البرنامج الإذاعي «مشاهد وانطباعات»، الذي قدمته إذاعة جدَّة. وشارك في كتابة نصوص عدة أفلام روائيِّة ووثائقية منها فيلم «قافلة الحج» الذي أنتجته المؤسسة الأهليِّة لمطوِّفي حجّاج دول جنوب آسيا، بمناسبة احتفالها بمرور 25 عاما على تأسيسها.

وتناول الراحل التاريخ الاجتماعي والعمراني لمدينة جدة، في كثير من كتبه ومقالاته الصحافية، ويتضح هذا الاهتمام الكبير من خلال روايته الأخيرة «مقام حجاز» التي حرر آخر سطورها وهو على فراش المرض.

كما أن عمق الأديب والكاتب الراحل في جدة وما يتعلق بجدة، تعدى مجرد التعريف الاجتماعي بتاريخ المدينة، وذلك عندما كتب عن دهاليزها وأزقتها الضيقة، وقدماء وأعيان سكانها، حتى أنه أفصح مرات أنه ينوي إخراج عمل روائي عن «خواجة يني»، وهو اليوناني الذي كان يبيع الجبن والمواد الغذائية في أول بقالة من نوعها في جدة، وذلك على ضفة شارع قابل المعروف بمنطقة البلد، ليضرب بذلك واحدا من أروع مثل التعايش التي عرفتها جدة.

ذلك الشغف التاريخي بمدينته وثقافته، أعطى محمد صادق دياب مجدافا في يد وقلما في اليد الأخرى، فأبحر الراحل وكتب في مختلف الفنون، فمخر عباب بحور السياسة والفن والفكر والدين والأدب، حتى أصبح لمقالاته طعم ولون ورائحة لا تعد خلطتها السرية إلا بين أنامله.