آخر مقالاته في «الشرق الأوسط»

أبو البنات

TT

في المجتمعات التي توغلت فيها الثقافة الذكورية، لا ينتظر الفرد أن يتزوج وينجب ليطلق على نفسه «أبو فلان»، فمن «قبل الهناء بسنة» تجده يحمل اسم مولوده الافتراضي، الذي يورق على ألسنة الأصدقاء والرفاق، وقد تجري الرياح بما لا تشتهي سفن الإنسان، فيجعل الله ذرية الفرد من البنات كما هو حال كاتب هذه السطور، الذي قدر الله له أن يكون «أبو البنات»، ليشكلن ثلاثتهن أجمل ما في رحلة العمر.. ففي بداية حياتنا الزوجية، كنا نعيش في شقتنا الصغيرة وحيدين، حتى أطلقت ابنتي الكبرى صرختها في فضاء ذلك البيت فاشتعل فيه الفرح، وتوالت الصرخات وتكثف الفرح.. ويكبر الصغار، وتهجر كل واحدة منهن وكنها لتبني عشها المستقل، وعدت أنا وأمهن وحيدين من جديد كما بدأنا، لا يبدد هذا الشعور سوى تجمع أسبوعي عذب يوقظ الأسباط الحياة فيه في بيتنا غناء ومرحا وطفولة.

ويبقى السؤال: هل يعاني «أبو البنات» أزمة نفسية في ظل ثقافة ذكورية أول ما يسأل فيها الأب عن اسم مولوده لتكتمل هويته الشخصية الاجتماعية؟ بالنسبة لي، أجزم أنه لم يمر علي مثل هذا الشعور، وهي مسألة ثقافية بحتة، إذ إنني منذ البدء كنت قد حسمت المسألة تجاه الجنسين دون تفريق أو تفضيل، وإن بقيت البنات في قانون الوجدان «أفضل الكائنات»، ولكن مثل هذه الحالات المحدودة لا تلغي قط أن ثمة مشكلات أسرية في بعض البيوت سببها عدم إنجاب الذكر، وتتوجه فيها التهمة إلى الزوجات على الرغم من تبرئة العلم لهن، وكم أطفأت هذه المسألة قناديل الفرح في بيوت كانت تنعم في بداياتها بقدر كبير من السعادة والمحبة والوئام! وهيمنة النشأة الذكورية تاريخيا في المجتمعات لها أسبابها ومنطقها، يوم كانت الحياة تعتمد في الكثير من أوجهها الاقتصادية والأمنية على قوة الذكور العضلية، وهو ما يتفوق فيه الذكور على الإناث، وجاء التعليم ليقلب الكثير من المفاهيم رأسا على عقب، مطلقا القوة العقلية للإناث من عقالها لتشارك في الإنتاج وعجلة الحياة بصورة لافتة، وكم هي الأسر اليوم التي تعتمد في معيشتها على جهد بناتها، وقد أثبتن أنهن أكثر إحساسا بالأسرة من الكثير من الذكور، وليحفظ الله الجنسين.