«تقاسيم ما بعد العراك» تحذر من بقاء العنف مهيمنا على النفوس

في الذكرى الـ36 لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية

في مسرحية «تقاسيم ما بعد العراك» التحليق في محاولة للخروج من العنف («الشرق الأوسط»)
TT

بعد 36 عاما على اندلاع الحرب الأهلية اللعينة، لا يزال شبح الخوف من عودتها، يجثم على صدور اللبنانيين. وتحضيرا لهذه الذكرى الأليمة التي تصادف يوم 13 أبريل (نيسان) المقبل، بدأ المجتمع المدني يتحرك، كما يفعل كل سنة، في مثل هذا الوقت، محذرا من عودة الاقتتال الذي يحصد ولا يذر. المخرج ناجي صوراتي يسهم على طريقته في هذه المناسبة، مقدما مسرحية «تقاسيم ما بعد العراك» مع أنه يصح تسميتها «تقاسيم العراك الذي لا ينتهي». فهو عمل يعتمد على تنويع المشهديات المؤثرة، مستندا إلى الإيحاءات التي تبثها حركة الممثلين القاسية، لا بل العنيفة في المتفرجين، مع موسيقى صاخبة حينا هادئة حينا آخر، يختلط فيها العزف الحي مع التسجيلات الكلاسيكية، في تناغم مدروس ومتقن.

وبدءا من 30 الشهر الماضي وحتى 13 أبريل الحالي، أي يوم ذكرى اندلاع الحرب، تقدم مجموعة من طلاب مختلفي الانتماءات، على «مسرح المدينة» في بيروت، هذا العرض الذي يستعيد الحرب، باستبطان الوحشية الكاسرة الغائرة في عمق الكائن البشري.

المشاهد الأولى من المسرحية، تعيد المتفرج إلى كائنات كأنها بدائية، رجال عراة الصدور موشومون برسوم مختلفة، بينما الجزء السفلي من الجسد مغطى بتنانير سوداء واسعة تذكر بأردية المتصوفين. بعض الرجال لم يسعفهم الحظ بأكثر مما سنح لطرزان. أما النساء ففساتينهن الطويلة السوداء تشبه في جزئها السفلي تنانير الرجال، لتسمح هذا الاستدارات في الملابس، عند الدوران برسم أشكال هندسية متشابهة. تبدأ المسرحية بزحف على البطون وعراك بالأيدي، وسرعان ما يتطور الاقتتال حين تدخل الدروع المستديرة على المشهد. هي دروع صحيح، لكنها تستخدم أيضا أوعية لإشعال النار، كما أنها أغطية للأنوار. يعمل المخرج على ابتكار مشاهد مختلفة باستخدام أدوات محدودة، لكنها متعددة الوظائف. وعاء مخروطي زجاجي معلق يرتفع وينخفض تبعا لحاجة المؤدين إلى الماء الموجود فيه. استخدم المخرج أيضا قطعا خشبية كبيرة مربعة، طلي أحد وجوهها بالأسود بينما ترك الوجه الآخر بلون الخشب، تسعف في رسم عدد كبير من مشاهد الاقتتال وإخراج جرعات الحقد الكامنة في الأجساد. لعب مستمر على الأشكال الهندسية وحسابات رياضية بينة، سواء في تحريك الممثلين أو في استخدام الأدوات المتاحة.

ليس المطلوب من هذا العرض المسرحي سوى اللعب على الفكرة الوحيدة التي جعلها محور اهتمامه، وهي وحشية الممارسات اللبنانية التي تتجلى في حرب ما، وتبقى كامنة باستمرار لتظهر في حرب داخلية أخرى تليها، العدو فيها هو الجار أو الصديق. نص نصري الصايغ التائهة كلماته باللغات الثلاث، العربية والفرنسية والإنجليزية، وسط موسيقى متداخلة تمزج العربي بالغربي، يغيب ثم يعود كأنه جزء من اللحن الجنائزي الحزين. ينطق المؤدون بكلماتهم ليزيدونا حيرة، أقتلة هم أم مقتولون؟ أفي الحياة هم أم في العالم الآخر. أيرقصون هم بعنف جمالي أم يتناحرون في هذه التشكيلات التي يقومون بها؟ ينطق الممثلون ويعرفون عن أسمائهم، وأديانهم المختلفة التي قتلوا بسببها، والمناطق المتباينة التي جاؤوا منها. الكلام يبدو وعظيا على وجاهته في بعض الأحيان، خاصة عندما يذكرنا أحدهم أن الحرب حصدت 200 ألف قتيل و20 ألف مفقود لا أحد يعرف عن مصيرهم شيئا، وأن الذين قتلوهم وخطفوهم بعد عملية حسابية بسيطة يتبين أنهم بعشرات الآلاف. هؤلاء على كثرتهم، لا يزالون يتنزهون ويعملون ويحبون وينجبون الأولاد، ويعيشون بيننا.

إشغال حيز المكان، والعمل المتقن على خشبة فارغة، مع تدريب عال للممثل هي من سمات مسرح ناجي صوراتي. لكن الاهتمام بالمساحات أفقيا وعموديا لا يبدو أنه وظف بعناية هذه المرة. البرج الحديدي الذي يتسلقه الممثلون على جانب المسرح بدا ثرثرة لا لزوم لها. أغنى البرج المشهديات أحيانا، لكنه بقي هامشيا في أغلب الأوقات. هذا العمل الذي يستكمل جزءا أول خرج من رحمه، يلتزم الفكرة عينها.

مؤثر أن تبقى الحرب قادرة على إشعال الأحاسيس الابتكارية عند المخرجين اللبنانيين، إنه لأمر ينذر بأن الخطر جاثم والرعب قابع في الصدور. الشباب الصغار الذين شكلوا حلبة المصارعة وسط الخشبة وتباروا داخلها في قتال بعضهم البعض، ليسوا ممن شهد الحرب، فهؤلاء ولدوا وكبروا بعدها، على الأرجح، لكن الفتنة قائمة، والروح البدائية هي ذاتها، وليس بعصي عليهم أن يفهموا جحيمها.

يكرر الممثلون استخدامهم لمفردة الصمت، ويطلقون حناجرهم راغبين في كسر الصمت. الشياطين قد يصبحون ملائكة. هذا ليس مستحيلا. فالأشكال الهندسية المصنوعة من عيدان الخشب، والمعلقة في خلفية الخشب، نكتشف أنها قد تصلح لتصبح أجنحة يطير بواسطتها الممثلون. «حاولنا أن نرى إذا كان بالإمكان توجيه حيوية العنف والعراك واستخدامها كطاقة إيجابية» يقول كتيب المسرحية. وتشرح هذه الكلمة الموجودة في الكتيب: «بحثنا عن حالات تسام، لنحارب غريزة الموت داخل كل واحد منا، وانتهينا في فخ شكل من أشكال الاستدارية».

هكذا تتركك مسرحية صوراتي أمام متعة الفرجة بحيث لا تبخل عليك بالتناغم الذي تصوغه بين عناصرها، وفق حسابات رياضية محسوبة لتبقيك مشدودا حتى نهايتها، دون أن تنكر أن الهدف هو أن «تتقاسم معك العنف بكل أحجامه»، وأن تقول إن الذين «شاركوا في حروب لبنان هم مجرمون وسيبقون كذلك مهما كانت انتماءاتهم الحزبية أو الدينية»، أو مهما علا شأن مواقعهم السياسية التي ارتقوها.