ورحل صديق الفقراء والمساكين

الأديبان محمد دياب وعبد الله الجفري في إحدى المناسبات
TT

لم تنع الأوساط الإعلامية السعودية وحدها محمد صادق دياب في رحيله، فقد نعاه وحزن على فراقه المساكين والفقراء، الذين كانوا يرون فيه من الرجال الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. محمد صادق دياب الذي عرف في أحياء جدة القديمة وأزقتها بـ«صديق الفقراء»، المحب لأبناء حارته وأقاربه، كان بمجرد دخوله إلى الحارة يتسابق على ممازحته الصغير قبل الكبير. لم يكن تفاعله مع الفقراء في الواقع المعيش فقط، بل تعداه إلى تشخيص أحوالهم في مؤلفاته الثمانية، وهي المفردات العامية في مدينة جدة - امرأة وفنجان قهوة - جدة .. التاريخ والحياة الاجتماعية - عباقرة الفن والأدب جنونهم وفنونهم - ساعة الحائط تدق مرتين «قصص» - 16 حكاية من الحارة «قصص» - الأمثال العامية، ثم روايته الأخيرة «مقام الحجاز». يقول العمدة عبد الصمد محمد عبد الصمد، إن الفقيد صديقه منذ أيام الطفولة عرف بأعمال الخير، وهو ما يتفق عليه الكاتب سامي الخميس - صديق الراحل - بقوله إن علاقته بالفقيد ممتدة منذ الطفولة، فكان أكثر الناس شهامة ونخوة وكرما في تعامله، مشيرا إلى وقوفه مع كل المبتدئين في كافة المجالات. مهند الخياط، الذي يعتبر نفسه تلميذا وصديقا وابنا للراحل، اعتبر الراحل صديقا للفقراء وفارسا للأخلاق، وقال: يعد أبا غنوة «صديق الفقراء» بلا منازع، وقد لمست ذلك خلال علاقتي الأخوية والعملية به، ولم تكن تخلو من صغير يطلب وده أو كبير يحنو عليه.

كانت الأموال تتدفق من بين يديه بكرم قلما نجده إلا عند الطائي، وبإنسانية راقية تجبرك على احترامه، حتى يخيل إلى من يراه يغدق في عطاياه أنه مدين لمن يحنو عليهم لا معط لهم.

ولطالما خرجت معه في جولاته وسط الأزقة القديمة لمنطقة البلد والهنداوية، يناجي حارتها العتيقة وأهلها، ويبادلهم محبتهم بحب أكبر، إلى الدرجة التي أستغرب فيها من تمازجه الكبير مع الفقراء على اختلاف أفكارهم وأعمارهم، وهو ذاك المثقف صاحب المناصب العليا في بلاط الصحافة.

كان أبو غنوة دائما ما يعطي الفقراء، وتتعدد القصص والمشاهد الإنسانية مرة تلو الأخرى مع اختلاف الشخوص، مما يزيد من احترامي له بشكل أكبر.

وذات مرة، كنت معه في جولة على عدد من بيوت جدة القديمة وإذا به يدلف بيتا آيلا للسقوط يقطنه سبعيني مريض، وجلسنا في غرفة بالكاد تكفينا، وكان يطلب من العجوز سرد قصص كفاحه وبطولته في الزمن القديم، مع ضحكات من هنا وهناك ترسم البهجة على محيا العجوز، ليغادر أبو غنوة وفي يده عطايا للعجوز مما أعطاه الله دون أن يلحظه أحد سواي.

بادرته بسؤال: «فضولي ويقظتي الصحافية قد جعلتني أشاهد عطاء يديك، فمن هو ذلك الرجل؟». أجابني والابتسامة المعهودة على شفتيه: «إنه رجل مكافح وشريف ويستحق المساعدة، لكنه يخجل من أن يعطيه أحد غيري، وهو وحيد بلا عائل في هذه الدنيا، ولو لم تكشفني لما ذكرت لك ذلك».

كان يرحمه الله مثالا لنبل الأخلاق وفارسا لها، ونبراسا لمعنى التسامح، حتى إنه قد زرع فينا حكمة الفارس الأمير، إذ كان دائما ما يشير إلي بالتجاوز عن كل من يختلف معي أو يضرني بكلمته المعهودة: «كن فارسا أميرا في أخلاقك وتجاوز عنهم يا بني، فلسنا إلا مسافرين في هذه الحياة الفانية!».