محمد صادق دياب... «ذاكرة» جدة وصديق حاراتها

شراع ضل طريقه في اليابسة فأوشك على الغرق

محمد دياب يتوسط اصدقاءه في جدة
TT

ما بين حارات المعادي وسوق الندى وبحر الأربعين، لم تنكسر ريشة كاتب اتخذ من الحارات والجادات، والحكواتية، صنوا لخطواته، مارس فيها إبداعات الكاتب، وذاكرة المؤرخ، وحمل على كتفيه، سجلات مدينة متخمة بالحضارة والإرث القديم.

اتخذ محمد «صادق» في تلافيف سرده التاريخي، من قلمه، ميزانا راجحا، لم يطفف فيه، ولم يهادن، من أجل تسجيل سابقة تاريخية له، بل شنف آذانه جيدا من أجل التوثيق الصادق والأدل.

ومحمد صادق دياب، مثقف مازج بين تلافيف ذاكرة جدة التاريخية، وقلم لم يجف حبره حتى قبل وفاته، واصل حضوره المتألق، حتى وهو يصارع مصيره، لمرض عرك جسده، فتعالت أصوات المثقفين وهي تشاركه صرخات الألم على سريره الأبيض، فبادلها الابتسامة، وساجلها الدعوات المكلومة، ما فتئ يناغم تناهيد إنسانيته، ليوزع رقاع اللحظات الأخيرة، ممرّا أحرف الوداع الأخيرة بكل طريقة ممكنة.

لم ينكفئ الكاتب والمؤرخ في جدة وحيدا، بل مضى مشرئبا يجمع بين الدفتين في مقهاه الثقافي، جموعا لا ضفاف لها، من جميع الشرائح والمشارب، ليسهم بالجميع في توطين المفردة، وحياكة الرواية، وترويض الخاطرة، في جهد دؤوب، نأت به «الحمول» الثقال، فلم يكل ولم يمل، وواصل منكبا على أوراقه، وسردياته، يعجنها تارة، ويمضغها تارات أخر.

وحينما اعتضل به المرض، واستشرى في جسده، رحل تاركا بين لواعج الألم، «مقام حجاز»، نثر فيه جولة تاريخية مفصلية لجدة، في قالب روائي، رمي سهمه الأخير فيها، ليخلق «الاستلابة» بين المتلقي، وسور جدة القديم، ويكتب موثقا عريضا، أطر فيه أن قلم، كان شاهد العبور الوحيد، بين «جدتين» قديمة، وحديثة، نسي بين أوراقه وأقلامه، أن «السرطان» اختلى بجسده، وهو ملقى على راحتي الساحل الغربي.

«أنا شراع ضل طريقه في اليابسة فأوشك على الغرق»، هكذا يصف نفسه، فهو في كل البلدان، والأمصار، يشد بيديه، جلباب الجمال، و«مركاز» الحارة، ويثب متجهما بحلل الأناقة الفكرية، التي لا يعسف مفرداتها، إلا رجل وطأت قدماه كل حارات جدة، واستنشق زمنها الجميل، ومارس فيها كل المآثر التاريخية، وكان ورقة بيضاء يونانية، لم تبخل في تسجيل الذكريات، ولم تتوان في «أرشفة» كل أدبيات الحارة بكل بساطتها، وحيثياتها.