محمد صادق دياب.. للكلمة عمر آخر

محمد صادق دياب
TT

كان الراحل محمد صادق دياب في سباق مع الموت، زاده الحبر والورق، أنهى بسرعة عمله الروائي الأول (مقام حجاز) قبل شهر من رحيله، لكنه كان على موعد مع دار النشر لتسليم رواية أخرى في اليوم التالي لوفاته، عاجله القدر ولم تسعفه العافية أن يكمل روايته الأخيرة..

كانت رواية «مقام حجاز»، أولى روايات محمد صادق دياب وكانت تتمحور حول تفاصيل مذبحة تعرض لها دبلوماسيون غربيون في جدة قبل 150 عاما، وتناولت الرواية مرحلة بناء سور جدة في الفترة من بداية العام 1513، لتصل في أحداثها لعوالم جدة المعاصرة في عام 2011، وتم عرضها في شهر مارس (آذار) الماضي في معرض الرياض الدولي للكتاب، وحققت مبيعات كبيرة في المعرض، وهي من إصدارات «جداول».

ومثّل هذا العمل روحا جديدا لسيرة المدن، مثلما أعطى الراحل عمرا جديدا ربما يفوق عمره الذي انصرم أخيرا، لقيمة هذا العمل، الذي حقق مبيعات عالية في معرض الكتاب الأخير. إنه يتعدى كونه عملا أدبيا، أو حتى تاريخيا، فبحسه الصحافي، يجد دياب أن جانبا مهملا من تاريخ جدة لم يسلط عليه الضوء، فاختار أن يخلده في عمل روائي يمزج بين الحدث التاريخي والسرد الأدبي.

هذه الرواية هي أقرب إلى سيرة مدينة منها إلى العمل الروائي الأدبي، ولذلك فالراحل استعان بمجموعة من الوثائق التاريخية التي تحكي سيرة مدينة جدة أو تروي فصولا من أحداثها، من بينها مخطوطة «الجواهر المعدة في فضائل جدة» لأحمد الحضراوي، وكتاب «تأريخ مكة» لأحمد السباعي، و«موسوعة تاريخ مدينة جدة» لعبد القدوس الأنصاري.

حكاية السور، أو «مقام حجاز»، هي جانب من انحياز محمد صادق دياب للضعفاء والمهمشين، تمثل هذه الرواية جانبا من سيرة الأهالي الذين أجبرهم الحاكم العثماني على بناء سور عملاق يحمي المدينة من هجوم البرتغاليين، وما كان لدياب سوى أن يلتفت للرجال المتعبين الذين فرض عليهم أن يفتتوا الصخور ويحملوها مسافات شاسعة لبناء السور، في حين تضج الرواية بمختلف الصراعات بين القوي والضعيف، كما تمتلئ الرواية بأسماء الحارات القديمة في جدة، راسمة أحداثها، ومجسدة شخوصها.

«أبو غنوة»، لم يبخل على جدة المدينة التي عشقها، فابتدأ بها التأليف واختتم بها الكتابة، فكتب عن «المفردات العامية بمدينة جدة»، كما كتب «جدة.. التاريخ والحياة الاجتماعية»، وكتب «16 حكاية في الحارة»، و«الأمثال العامية»، لكن أروع ما كتبه عنها كان «مقام حجاز».

فجدة بالنسبة إلى دياب حكاية أخرى، هي ليست مجرد مكان للسكنى، أو موئلا للعمل، بل هي عشيقة وحبيبة، وفي روايته «مقام حجاز» كان يسميها أنثى أنجبها تزاوج الصحراء بالبحر، وهي جنية الشاطئ الحسناء التي «تغازل البحارة والغرباء وعابري السبيل وتنثر ضفائرها فنارا فترحل صوبها أشواق المواويل وأحلام النواخذة».

الحكاية مزيج من القهر والبسالة، يتحدان حين ترتبط «سلمى» التي فقدت زوجها الأول، في مشهد مأساوي بعد أن قرر الوالي أن يبني السور فوق جسده، بابن عمها «محسن» الذي قتل جنود الوالي أباه، فينجبان الأبناء الذين صنعوا جزءا من تاريخ المدينة المكافحة، وتصل الرواية لحاضر المدينة حيث تغيرت صورة الماضي وبقيت روحه متوثبة، في حين أصبحت المدينة أكثر اتساعا وحداثة، وتبدلت صورة أحيائها السكنية، وامتزجت الحضارات والثقافات فوق أرضها.

على صعيد علاقته بالكلمة، يجد الكثير من الإعلاميين والأدباء السعوديين، في الراحل محمد صادق دياب، ملاذا لهمومهم، وحاضنا لتجاربهم، ومشجعا لتطلعاتهم، وناصحا أمينا لخياراتهم. بالنسبة لرجل انغمس في الحبر، فإن العمل في مهنة المصاعب يمثل بالنسبة إليه متنفسا وروحا جديدة تدب في أحشائه. لكنه على مدى الخبرة الطويلة التي تعلمها ظل يشرع أبوابه أمام مختلف التجارب الصحافية الشابة التي عاصرته وتعلمت منه. وكثيرا ما كان يمد اليد بالعون لزملاء المهنة دالا على الطريق، أو مرشدا للوصول إلى الهدف، أو ساعيا من أجل إنجاز طريقهم للمستقبل.

وعلى الرغم من «حماوة» المنافسة واحتدام الصراعات داخل أصحاب المهنة، كان دياب بالنسبة للإعلاميين مساحة حرة لكل تطلعاتهم، وفضاء مفتوحا لكل أحلامهم، وفي نفس الوقت كان صارما في الالتزام بالمهنية والحرفية وإجادة أدوات العمل، ولم تكن الصحافة بالنسبة إليه مهنة، وهو الذي فرغ نفسه للتربية والتعليم، بل كان يحذر أشد الحذر أن يتخذ من الصحافة «مهنة»، لكنها كانت بالنسبة إليه «رسالة»، يؤدي من خلالها مسؤولية الكلمة، بكل عنفوانها وجمالها ودورها في الحياة.

وكان محمد صادق دياب «عمدة» لجيل كامل من الصحافيين السعوديين، حيث يتعاطى مع زملاء الحرف على طريقة «العمدة»، في صورته المثالية التي احتفظ لنفسه بجمالها، وهو كان يوقع مقالاته باسم «العمدة»، في صفحته الأسبوعية في ملحق الأربعاء الثقافي بجريدة «المدينة»، وكانت تلك الصفحة تحمل اسم «مركاز العمدة».