المديح والتجانس في البلقان يقتفي آثار الأدب العربي

يتفاخرون بالحديث باللغة العربية.. والضالعون منهم كانوا يكتبون بها البحوث والشعر

جامع الغازي خسرو بك في سراييفو («الشرق الأوسط»)
TT

عرف العرب بعاطفة جياشة، فهم إذا غضبوا هجوا، وإذا رضوا مدحوا، وإذا أحبوا غازلوا، وإذا استغنوا افتخروا. منهم الشاعر النابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وأمية بن كعب، وعبيد الله بن قيس، والمتنبي، وأبو تمام، وفي العصر الحديث، يبرز شوقي، وحافظ، والسياب، والجواهري حيث إن نصف ديوان الجواهري مديح، شمل ستالين، ومونتغمري، ونوري السعيد، والملك فيصل الثاني، وغيرهم.

ولم يكن الشعراء العرب بدعا من الأمم، فأغلب الشعوب لديهم هذه العاطفة، وإن كانت نسبية، وبمستويات تختلف من أرض إلى أخرى. والبلقانيون عرفوا هذه الأنواع من الهجاء، والمديح، والغزل، والافتخار، من التراث العربي الذي اطلعوا عليه عندما كان للعربية سحر الإغراء. وقال أستاذ اللسانيات، الدكتور محمد هوكوفيتش، لـ«الشرق الأوسط»»، «تأثر البلقانيون بالآداب العربية والفارسية والتركية، بعد وصول العثمانيين إلى البلقان، فملكت عليهم حياتهم، وكانوا يتفاخرون بالحديث باللغة العربية، والضالعون منهم كانوا يكتبون بها البحوث وحتى الشعر». وتابع «أخذوا فن المديح، والفخر، من الآداب العربية». ويذكر الدكتور محمد هوكوفيتش، طرفا من الأدب البوسني والبلقاني في منطقة شرق أوروبا، ومنها ما كتبه كامل سيلاجيتش، والد الرئيس البوسني السابق حارث سيلاجيتش، فهو وإن لم يكن ضالعا جدا في اللغة إلا أن له محاولات في هذا الباب منها «وعلى سائر الواقفين بجميع الأرضين .. قد أظهر كامل أفقر الموحدين، أحد من الخادمين للغازي (الغازي خسرو بك مؤسس الجامع والمدرسة والأوقاف المعروفة باسمه في سراييفو) طول سنين، تاريخ التعمير في آية من الكتاب المبين (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)». ولكامل سيلاجيتش ما يشبه ديوان شعر باللغة العربية، على الرغم من اختلال بعض قوافيه «مؤمنو أهل كيسيلياك (مدينة بوسنية تبعد عن سراييفو نحو 30 كيلومترا) لله حمدوا.. اعتصموا بحبل الله جميعا واتحدو.. بعضهم بعضا تعاونوا وأيدوا.. ومسجدهم في سبيل الله جددوا وأكبر منه بجانبه شيدوا.. وعلى زيارته وتعميره عاهدوا»، حتى يقول «وسابق بالخيرات بإذن الله ساعدوا.. إلى يوم القيامة يا رب لك سجدوا.. واتبعتهم ذريتهم بإيمان وشهدوا.. أن الرسول حق ورضاك وجدوا».

وعلى الرغم من ضعف النظم وانخرام التراكيب اللغوية والوزن أحيانا، فإنهم كانوا يستميتون في الكتابة باللغة العربية، لا سيما في الثناء على الراحلين إلى دار البقاء، ومن ذلك نعثر على نصوص كثيرة منها «بروها (لقب) الحاج دوريش أتاك.. كان إماما ومعلما ولم يعبد سواك.. فارحمه يا مولاي حين أتاك.. نرجو رب عفوك ورضاك». ومن مدح الراحلين نجد أيضا «يا من يحيي العظام وهي رميم.. أستاذ الحديث أتاك يا رحيم.. الحاج الحافظ إبراهيم.. مصلي التراويح بختم القرآن الحكيم.. القارئ على سبعة أوجه بصوت رخيم.. فبشره بمغفرة وأجر كريم». ومن ذلك أيضا «مستجيبا لربه والقدر.. رجع إليه الحاج الحافظ عمر.. مدرس الجامعة من علماء الزمر.. مزين بصدقة والأثر والثمر».

ويتنوع شعر المديح في البوسنة والبلقان بين الأفراد والجماعات والمناطق كما سلف، وغالبا ما يمدح الشخص أو الجماعة أو المنطقة لعمل قاموا به لصالح الدين «مسلمو أهل سيميزوفاتش (من ضواحي سراييفو) حفظا للدين القويم.. قد بنوا المسجد لوجه الله الكريم.. تاريخه من كامل في القرآن الحكيم.. إن المتقين في جنات النعيم». كما نجد مدحا لأحد علماء البوسنة المشهورين، وهو الشيخ حسين جوزو «الحاج حسين جوزو المستشار بالمشيخة الإسلامية.. علم من علماء خير البرية.. المدرس بالجامعة الإسلامية.. طوال السنين رئيس الجمعية العلمية.. له الكثير من المؤلفات الإسلامية.. وأكثرها في تفسير الآيات القرآنية».

وغالبا ما توضع أبيات من الشعر على أبواب المساجد، تشيد بمن بناها، وهي ظاهرة ملاحظة في البلقان في العديد من المساجد التاريخية كمسجد الغازي خسرو بك، ومسجد السلطان أحمد في كوسوفو، ومساجد مقدونيا وغيرها. وفي بريشتينا، عاصمة كوسوفو، نعثر على هذا المديح «سلام عليكم يا أهل بريشتينا.. قد أنشأتم هذا البناء للطالبين.. أحسنتم إكراما للدنيا والدين.. وأعليتم راية الحق المبين.. عسى أن تكونوا من المهتدين.. وتحافظوا على حدود الدين».