مكة والوحدة.. حين لا تخطئ الأرواح قبلتها

عاطي الموركي.. رجل الأعمال الذي يحمل «ميكروفون» الوحدة فوق رأسه > أدباء مكة وأعيانها كانوا من رموز الداعمين والمؤسسين > أبناء حاراتها وأزقتها.. فهارس مكة الحقيقية

عاطي الموركي المشجع الوحداوي الشهير حاملا الميكروفون فوق رأسه خلال إحدى مباريات فريقه («الشرق الأوسط»)
TT

كيف يمكن تلخيص حكاية علاقة «المكاويين» بناديهم الوحداوي؟ حسنا، لنجرب بهذه العبارة «أنت مكاوي إذن لا بد أن تكون وحداويا»، هذا التقرير الذي ينشأ عليه اليافع في ثنايا مكة وحاراتها.

رغم تنوع انتماءات بعض أبناء أم القرى لمختلف الأندية الكبرى، فإنه يظل في داخل كل منهم وحداوي صغير، يتحين الفرصة للظهور من وقت لآخر. وليس أنسب من هذا الوقت، حيث يلعب نادي الوحدة على نهائي كأس ولي العهد السعودي، بعد غياب دام ثمانية وثلاثين عاما عن النهائيات. وهو النهائي الذي وعد رئيس نادي الوحدة، جمال تونسي، أن يشرب لاعبوه ماء زمزم في كأسه.

نادي الوحدة، إحدى بوابات المجتمع المكي بمختلف تنوعاته وأطيافه الاجتماعية والتاريخية، ولكن لنادي الوحدة ذاته مداخل مختلفة، أبرزها عاطي الموركي، رئيس رابطة المشجعين لهذا النادي المكي العريق لما يقرب الثلاثين عاما.

الموركي رجل أعمال لم يتنازل عن حمل «ميكروفون» الوحدة فوق رأسه طول الثلاثين عاما، وظل منحازا لمشاهدة المباريات، واقفا في المدرج، ولم يختر مقعدا في منصة أعضاء الشرف، على الرغم من أنه أحدهم، ومن أكثرهم تأثيرا في صناعة القرار.

الموركي، رئيس رابطة، يتغنى بحب ناديه، ومشجعو النادي يتغنون بحب عاطي مع الوحدة، حتى إنه في إحدى الأهازيج الشهيرة في مدرج فرسان مكة؛ يبدأ مطلعها كالتالي:

دق الزير ودق الطار خلي الملعب يولع نار أبو رامي «شيخ بركات» (جمال تونسي رئيس النادي) رد الوحدة للبطولات وعاطي يا عاطي يا دكتور أنت القايد للجمهور الأحمر والأبيض حبيب الكل لون الورد وروح الفل ولا شك أن «عبقية» مكة دينيا، ألقت بظلالها على أهازيج الموركي، فتجد عبارات الدعاء تتقاطع مع كل أهزوجة وحداوية، مثل «إن شالله يا وحدة منصورة بأمر الله، ونهني ونفرح ونبارك بأمر الله»، وغيرها الكثير.

يقول عاطي الموركي: «وحدة زمان، عادت لنا مثل زمان، وأتمنى أن تفرح مكة وأهلها بعد كل هذا الصبر، أربعون عاما سنوات طويلة جدا، ولكن حتى مع هذا الغياب فلا يزال الانتماء للوحدة في أوساط الشباب حاضرا ويتزايد، ونظرة بسيطة للمدرج ستثبت ذلك».

والحال أن واحدا من الأمثال الشعبية لـ«عتقيّة» الجمهور الوحداوي في الملعب قبل بدأ المباراة، التي تتردد من باب الدعابة للجيل الشاب من الجمهور، تقول: «من صبر على شدة حر مكة، والبعد عن مكة، وغُلب الوحدة.. دخل الجنة بإذن الله»، ودعابة أخرى تتردد «الوحدة خير من جليس السوء».

وبما أن الحديث عن المدرج الأحمر، فلا يستقيم هذا الاستحضار دون مشاركة «العم محمد غزالي يماني» حكواتي المجالس الوحداوية، ومؤرخها.

ويقول في «دردشة» مع «الشرق الأوسط»: «تشجيع نادي الوحدة في الماضي كان نابعا عن الانتماء إلى مكة المكرمة، وكان من الشائع سماع قول أنا مكاوي، إذن أنا وحداوي. ومن القصص الجميلة التي أتذكرها تلك الأهازيج التي كنا نرددها عند الذهاب إلى جدة لمشاهدة المباريات قبل عام 1381هـ، حيث كان مفروضا على الوحدة لعب جميع المباريات في جدة طوال أربعة أعوام، ابتداء من عام 1377هـ. فعند الوصول إلى جدة، وأيضا عند دخول ملعب الصبان، كنا نغني.. ياما أقبلنا على جدة.. قال الوجيه منصوريين (الوجيه هنا يقصد به الشيخ عبد الرحمن الصبان رحمه الله الذي كان أكبر داعم للنادي)، وكذلك كنا نردد.. السنة دي سنة القدرة.. حتى الجراد طاح في الحفرة». والحفرة المقصود بها هنا ملعب الوحدة.

وعلى الرغم من أن لعبة كرة القدم في بداياتها السعودية، ظلت ينظر لها على أنها مضيعة وقت غير مفيدة، فإن يماني يعود ليذكر أن النادي كان يتلقى أكبر دعم له من أدباء وأعيان مكة: «العلاقة الحميمة التي تربط الوحدة بالمجتمع تتمثل في وقوف أدباء وأعيان وعمد مكة المكرمة من جميع الحواري مع نادي الوحدة، ومنهم على سبيل المثال: أحمد سباعي، وأحمد ومحمد جمال، وإبراهيم فوده، وعبد الله وحمزة بصنوي، وكامل أزهر، وآل الأشعري، وآل العنقاوي، وآل المسكي، والشيخ محمد صالح بخاري، ومحمد سالم غلام، وعمر وخليل عبد الجبار، وآل طيبة، وآل هرساني، وآل الصبان، وآل السجيني، وآل الكعكي وآل القزاز وغيرهم».

ويزيد: «كانت تقام كثير من الحفلات لنادي الوحدة، وقبل المباريات كان رجالات مكة المكرمة يذهبون إلى التمارين ويدعمون النادي ويقدمون الهدايا للاعبين، مثل الساعات، الأحذية الرياضية، والجنيهات الذهبية. وكانت الحارات المكية تتنافس في الاحتفال بالوحدة وتتنافس في تسجيل أبرز نجوم اللعبة في النادي. وكانت أغلب منازل الحواري في مكة المعظمة ترفع الأعلام الوحداوية قبل المباريات».

الوحدة من منظور اجتماعي، يمكن النظر له على أنه صورة من صور ذوبان الطبقية العرقية في نسيج واحد، فكان لأبناء البادية دور وملمح رئيسي في هذه الصورة الجمالية المكية، من خلال نادي الوحدة.

وفي هذا السياق يقول (العم غازي القرشي)، 80 عاما، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «لم يكن أبناء البادية أو الحاضرة.. يعاني من العنصرية والحروب الاجتماعية، بل كان نادي الوحدة يعني لنا أحد معاني وحدة مكة، متمثلا في أحد أوجهه وهي الوحدة الرياضية. كنا نتبادل الحوارات والنقاشات عن الوحدة بكل مكان وزمان في حياتنا، حيث كانت هي نقطة انطلاق الحوار الأساسية بكل مكان بالمقاهي والحواري».

ويتابع: «كنا نسير مشيا على الأقدام إلى أن نصل إلى منطقة المعابدة بجوار الإمارة، حيث كنا نركب التاكسي.. لكي نصل إلى نادي الوحدة في منطقة الغزاوي ونحضر التمارين لجميع الألعاب من الرابعة عصرا وحتى الثامنة مساء. كنا عند انتصارات الفريق نقيم مآدب العشاء والغداء بمنطقة عرفات.. ونسمر ليالي الأنس والسهر والمزمار لانتصاراتها».

القرشي لاعب سابق في نادي الوحدة، وقدم أبناءه الخمسة لخدمة الكيان الوحداوي كلاعبين وإداريين، ولعل أبرزهم ابنه مشعل الذي يشغل حاليا منصب أمين عام النادي في إدارة جمال تونسي، التي وصلت هذا النهائي للحلم. بينما ابنه محمد يعمل مساعد مدرب لكرة القدم، وابنه نايف إداريا لفريق الناشئين بكرة اليد.

ويختم العم غازي مشاركته قائلا: «كنا نعمل ساعات متواصلة لخدمة الحجيج، من أجل كسب رزقنا الخاص، ولزيادة دخلنا كي نستطيع شراء المستلزمات الرياضية للاعبين المميزين في الحي، حتى يكونوا في حالة جاهزية نفسية وبدنية بالملابس حين يلعبون لفريق الوحدة، وكذلك لجمع أكبر مبلغ مالي ليتبرع به شيخ القبيلة للنادي، لكي نحس بالفخر بأننا أبناء قبيلة تدعم النادي ماديا بسخاء مستمر».

وعلى نفس النسق، يقول المشجع سعيد المحمادي: «كانت المقاهي حول النادي منتشرة، وكنا نتجمع فيها من بعد الظهر لإدارة الحوارات والنقاشات حول النادي. كان اللاعبون يتجمعون في هذه المقاهي الشعبية للنقاش مع الجماهير الوحداوية. كان النادي ولا يزال هو حلقة الوصل بين أبناء المجتمع من حاضرة وبادية وأبناء البلد من جميع الطبقات. كانت الجماهير تشكل هاجسا خطرا ومرعبا بعد الخسائر، فكان اللاعبون لا يستطيعون مواجهة الجماهير بعد الهزيمة. الحب والأخوة كانا وسيظلان يميزان هذا المجتمع المكي، ويتجسدان في علاقته بناديه الذي يمثل مدينته».

وبما أن الحديث عن المجتمع المكي، فلا بد من ذكر نصفه الثاني، متمثلا في سيدات الوسط المكي، الذي تحول وصول الوحدة لهذا النهائي وإقامته في مكة، حديثا لتجمعاتهم في عصريات الشاي والقهوة. حتى إن أحد ملاهي الألعاب العائلية الشهيرة في مكة، أقامت قبل يومين حفلا خاصا بهذه المناسبة، احتوى على «المجسات المكاوية» وما إن يذكر الجسيس اسم الوحدة حتى تقاطعه «زغاريد» متفرقة من العوائل الحاضرة.

وبالعودة ليماني، ينبه على أن «الكثير من النساء بعد عام 1370هـ كانوا يخيطون الأعلام، وأثناء المباريات كان البعض منهن يذهبن إلى الحرم للدعاء. النساء بطبعهن عاطفيات، فهن يحببن ما يحب أبناؤهن وأزواجهن».

الأكيد أن نادي الوحدة يعكس أحد أشكال التمدن المكي، والأكيد أيضا أن مثل هذه المناسبات تعود لتذكر الكثيرين بجوهر ثقافة الانتماءات للحارات القائمة على قيم أصيلة، لم يلغها التمدد العمراني، ولم يغيرها الزمن كثيرا، وليس أدل على ذلك من اجتماع جميع عُمد حارات مكة والاتفاق مع الإدارة بتسيير باصات محملة بالشباب لدعم الفريق في هذه المباراة، ففي أم القرى، ما زال أبناء الحارات والأزقة الضيقة فهارس مكة الحقيقية.