افتتاح عراقي مثير للسجال.. في الدورة الرابعة من مهرجان الخليج السينمائي

عن الوطن والأم والمستقبل الضائع

مشهد من فيلم للمخرج السعودي مازن الفهيد
TT

الكاميرا مهزوزة. الصوت بشع. الإخراج معدوم. الصورة فطرية.. ماذا بعد؟ آه، الفيلم مهم. هذا هو حال فيلم افتتاح الدورة الرابعة من مهرجان الخليج السينمائي الدولي الذي انطلق في الساعة الثامنة مساء بعد خطب موجزة لرئيس المهرجان عبد الحميد جمعة، ولمديره الفني مسعود أمر الله آل علي تصب في الخانات الأساسية التي لا بد من استهلال الدورة بها.

لم تكن خطبا طويلة عصماء عن أهمية السينما ومجالاتها ووظائفها، فهذا بات مفروغا منه، كذلك لم تكن حكايات تروى عن مآثر الدورات السابقة، بل حطّت الكلمات في مكانها الصحيح عندما تم ربط الدورة وما تستقبله وتعرضه من أفلام بالمتغيّرات الحاصلة حولنا. فالمؤكد أن تلك المتغيّرات تطرح نفسها بقوّة على العمل السينمائي. ليس أن هناك أفلاما كثيرة ستعبّر عما حدث، فالوقت ما زال مبكرا، لكن هناك أفلام كثيرة تتحدّث عن الألم والأمل. الواقع والحلم. الهموم الساكنة والرغبات في الوصول بالفرد إلى المكانة التي يستحق.

المهرجان حقق من النجاح في الدورات الثلاث ما جعله المحطّة الخليجية الأكبر والأهم، من ناحية، كما دفع مسؤوليه لإضافة مسابقة دولية للأفلام القصيرة هذا العام بعدما انحصر الأمر سابقا في عرضها خارج المسابقة.

وإذ انتهت الكلمات وانفض المصوّرون مبتعدين وتوجّهت العيون إلى الشاشة لمطالعة فيلم افتتاح بعنوان «طفل العراق» وقف الجميع سواسية عند نقطة توقع وانتظار. إنه إنتاج دنماركي لمخرج في الحادية والعشرين من العمر اسمه علاء محسن، لم يسبق له الوقوف خلف أو أمام الكاميرا، وهو يفعل ذلك هنا فيخرج الفيلم ويقوم بتصوير نفسه فيه. فيلم وثائقي يتحدّث فيه علاء عن نفسه. لقد رحل عن العراق مع أهله صغيرا إلى الدنمارك، وها هي والدته وشقيقته تعودان إلى العراق مؤخرا وتتركان له تذكرة سفر للحاق بهما. وهو يفعل ذلك معلّقا بأنه كان يريد أن يتعرّف على وطنه الأم ويستعيد ذكرياته الطفولية.

علاء يسجل كل شيء بعد ذلك، لحظات وصوله ثم انتقاله في سيّارة عمّه لتمضية ليلة مع عمّه، قبل التوجّه إلى بيت أسرته ولقائه مع والدته وشقيقته. بعد ذلك هي معايشة للأجواء وحديث مباشر إلى الكاميرا مع تسجيل حوارات وتعليقات تدور في مجموعها عن نظرة ذلك الفتى (المخرج نفسه) للوطن ونظرة بعض أقاربه إليه أيضا. هناك مشهد يجلس فيه علاء بجانب والدته وهو يتحدّث إليها وإلى الكاميرا معا ليسألها عما إذا كانت تود العودة إلى الدنمارك، ونجدها تقدّر ما منحته إياها الدنمارك من استقرار وأمن ومتطلّبات. في مشهد لاحق تموت. ويقف هو أمام الكاميرا يبكي. ومن هذه النقطة وما تلاها يسقط ما بقي للفيلم من ضرورة. ذلك أن ما سبق إن كان تسجيلا ورصدا لحال فتى اندفع لمعرفة موقعه من وطنه الذي غادره صغيرا، فإن التالي هو محاولة تعميم حزنه لوفاة والده لدرجة أنه لا يتوانى من أن يطلب من المصوّر (يبقى ذلك المصوّر مجهولا ولا اسم له في الكاتالوغ) أن يفتح الكاميرا عليه وهو يبكيها. هذا لم يعد فيلما وثائقيا، بل جرعة عاطفية.

شخصيا لا أدري إذا ما كنت سأملك الرغبة لكي أسجل بكائي على والدتي لو كنت مكانه. لكن هذا اللحظة هي من تلك اللحظات العاطفية التي يتم شحن الفيلم بها لاستدرار عاطفي يحققه لدى البعض.

حال انتهاء الفيلم تعالت الآراء من حوله. ناقد صحيفة «النهار» اللبنانية هوفيك حبشيان أحب الفيلم كثيرا. غالبية العراقيين اعتبروه «معاديا للعراق» وآخرون مختلفون كانوا مع الفيلم في أمور وضدّه في أمور أخرى.

التاريخ سيؤكد لنا يوما أن مسمار النعش الذي حمل السينما إلى نهايتها هو اختراع الدجيتال (ولنا عودة إلى هذا الموضوع على نحو منفصل). لقد جعل من السهولة إلغاء القيمة الفنية للفيلم بأسرها للتعامل مع الصورة كما لو أنها صفحة كومبيوتر كل المطلوب من «المخرج» النقر على زر معيّن لفتحها.

سينمائيا، هذا الفيلم بلا أي فن ولا يسعى المخرج لأن يتفنن. لعله لو حاول وأفلح لكان هناك تبرير، ولو حاول وفشل لكان هناك مسببات يتم طرحها. لكن المسألة بالنسبة لم تكن أكثر من التسجيل. إذ أقول ذلك، فإن القبول بمبدأ أن الفيلم معاد للعراق لأنه يصوّر - فيما تلتقطه الكاميرا غالبا من دون تخطيط - واقع الحياة الكئيب للعراقيين الذين في الصورة، فإن ذلك بدوره خطأ فادح. واجب الفيلم، أي فيلم، أن يحمل نقدا لأن النظام المتكامل ليس موجودا. وفي حين أن معظم ما شاهدناه سابقا (وربما معظم ما سنشاهده لاحقا) من أفلام عراقية ينطلق من موقع الهجوم على نظام سابق من دون الإشارة إلى الحال الحاضر اليوم في العراق، فإن هذا الفيلم يصدّر الصورة الحقيقية الأخرى ويقول إن الوضع اليوم ليس أفضل من الأمس. الكهرباء محور حديث لكثرة انقطاعها، كذلك البطالة وكذلك رغبة الشبّان الذين يحبّون العراق لكنهم مستعدّون للسفر إلى أي مكان تحت الشمس هربا منه.

كذلك هناك نقد لا يُخفى لجيش المهدي ربما أثار بعض الحساسيات الطائفية التي وقفت عميقا وراء رفض البعض للفيلم جملة وتفصيلا.

هذه المرّة يختلف الفيلم في موقفه. واختلافه يرشدنا إلى أنه فيلم صادق. ركيك بكل معنى الكلمة نعم - لكنه أيضا صادق في التعبير عن رؤية المخرج ورؤية من قابلهم. رؤية آخرين قد تكون مناقضة، لكن هذا مكانه فيلم آخر ومن حق هذا الفيلم أن يعلن الموقف الذي يريد.

السجال دار حول صحّة اختيار هذا الفيلم للافتتاح، ووجهة نظر رئيس المهرجان عبد الحميد جمعة هنا مفيدة. لقد لخص سبب اختياره لـ«الشرق الأوسط» في نقطتين: الأولى أنه أراد التأكيد على أنه ليس المطلوب لإنتاج سينما خليجية ملايين الدولارات وحشد الطاقات والعناصر الكبيرة، بل يمكن تحقيق فيلم ذي معنى وحضور بأبسط الأدوات.

النقطة الثانية هي أن الفيلم نظرة إلى «الواقع الحالي الذي يمر به العالم العربي، والعراق خصوصا. دعوة للبحث في مشاغل هذا الإنسان البسيط الذي يحاول أن يبحث لنفسه عن وطن. بذلك حاولنا ربط المهرجان بالأحداث لأنه أساسا مرتبط بها ومعبّر عنها».

أفلام أخرى في المسابقة ذاتها

* «طفل العراق» واحد من الأفلام المشاركة في مسابقة الفيلم الوثائقي جنبا إلى جنب عدّة أعمال آتية من أرجاء متعددة. سنشاهد خلال الأيام التالية، على سبيل المثال، خمسة أفلام عراقية أخرى هي «وداعا بابل» لعامر علوان الذي كان لعب دور المغني في فيلم قاسم حول «المغنّي» (معروض في مسابقة الفيلم الروائي)، «الموت المعلن» لرعد مشتت الذي يحمل نظرة إلى الوضع الحالي في ظل التنظيمات المسلّحة، «كولا» ليحيى حسن العلاق وبدوره يتحدث عن الوضع المعيشي الصعب لطفلة عراقية، «الأنفال - شظايا من الحياة والموت» لمانو خليل الذي يتناول «الحرب التي شنّها نظام صدام حسين ضد الشعب الكردي». كذلك «أجنحة الروح» لقاسم عبد الذي كان سبق له أن اشترك قبل عامين بفيلم عنوانه «بعد السقوط».

الأكثر فرادة - من حيث الموضوع - فيلم عن طموحات السينمائيين العراقيين الذين يدرسون السينما (أو يحاولون على الأقل) في بغداد اليوم. الفيلم يحمل عنوان «مدرسة بغداد للسينما» وهو من تمويل هولندي للمخرج شوشين تان. باقي الأفلام آت من باقي دول المنطقة: «فنسنت» من المخرج السعودي مازن الفهيد يدور حول أوروبي اختار العيش على الرصيف منذ سنوات بعيدة ولا يزال يأمل العودة إلى عائلته. فيلم سعودي آخر بعنوان «فوتون» للمخرج عوض الهمزاني الذي اختار موضوعه مصوّرا فوتوغرافيا عراقيا اسمه سفيان الخزرجي ليسجل حياته وفنه بالكاميرا. ونقضي ليلة عرس في الفيلم السعودي «ليلة العمر» عن تقاليد الزواج في الحجاز وهو من إخراج فهمي فاروق فرحات.

دولة الإمارات لديها مجموعة كبيرة من الأفلام المشتركة في هذه المسابقة، أحدها بعنوان «مزيج عربي» لسيريل إبيرل، سينمائي ألماني - فرنسي يتحدّث عن الموسيقا العربية الحديثة وصوّره ووجد تمويله إماراتيا. المخرج رشيد حميد الماري يقدّم «رسائل إلى فلسطين» والمخرجة نجوم الغانم تقدّم فيلمها «حمامة» الذي استقبل جيّدا في دورة مهرجان دبي الأخير. وهناك فيلم عن رجل يجمع الصخور طول حياته بعنوان «رجل من صخر» لمعاذ بن حافظ و«بصيرة» حول رجل أعمى إنما قلبه دليله الثابت وهو من إخراج أحمد زين وناصر اليعقوبي. هذا بالإضافة لأفلام أخرى من الكويت واليمن وإيران وهولندا.