أعاد الفنان التشكيلي بيتر وادل دراسة التاريخ لإعادة تشكيل مشاهد من تاريخ العاصمة الأميركية. وكان بيتر وادل على يقين من أن واشنطن لم تبن على مستنقع. «ذلك ليس صحيحا!».. قالها محتجا وهو يقف أمام لوحة «جدول تايبر: المستحمون» وهي لوحة من لوحاته الـ14 التي تولي اهتماما بالغا بالتفاصيل في معرضه الجديد «فنان في زيارة لماضي البيت الأبيض». وتصور اللوحة الرئيس الأميركي جون كوينسي أدامز، وابنه جون وحارس البيت الأبيض في أحد أيام عام 1825، وعندما كاد الرئيس يغرق في نهر بوتوماك.
يبدو جدول تايبر السريع وبيئته التي لا تشوبها شائبة مسالما ولا يبدو مثل المستنقع الذي يقول المعلقون إنه يقبع تحت العاصمة. «إن الشهادات القديمة حول النهر تتحدث حول مدى جماله».. ذلك ما يقوله الفنان حول النهر الذي يمر حاليا تحت «جادة الكونستيتيوشين».
وربما تكون رسوم وادل التي جاءت بطلب من جمعية البيت الأبيض التاريخية قد بالغت في تصوير نهر «جدول التايبر» القديم. فمن الواضح أن وادل يحب واشنطن ويعشق تاريخها، حيث كان يجسدهما دائما في لوحاته منذ أكثر من عقدين. فيقول الفنان عن مدينته: «إنها مدينة جميلة. الانفتاح والضوء! أحب شعوري بأنني وسط التاريخ. كما أنها ملهمة فنيا. بالإضافة إلى أن المتاحف مجانية وهو ما يمثل الكثير بالنسبة إلي».
طويل، نحيل، وذو شعر فضي، ذلك هو وادل الذي ألقى بذلك الوصف لمدينته بلهجة جنوبية حادة – لهجة قوية حتى إنها تبدو منبعثة من النصف الآخر للكرة الأرضية. ويبدو حماس الفنان، 55 عاما، حماس المتحولين، حيث إنه جاء في البداية من نيوزيلندا في 1992 لدراسة الفنون القديمة بالغاليري الوطني للفنون. فيقول: «لقد أحببت الولايات المتحدة منذ أن وطأت قدمي أرضها. ربما يكون الأمر قد استغرق سنوات ولكنني اتبعت القواعد وأصبحت أميركيا وأحب كوني أميركيا».
وادل هو فنان مقيم بقصر تودور. وقد قام برسم لوحات لحدائق قصور جورج تاون، بالإضافة إلى الكونغرس الأميركي، وأكتاغون هاوس، وماونت فرنون وغيرها من المعالم التاريخية. وربما يكون مشروع البيت الأبيض الذي يلتقط لحظات من 1796 إلى 1902 من أكبر مشاريعه. وقد احتاج إتمام الرسوم الـ14 إلى ست سنوات.. «استغرقت كل لوحة ما بين خمسة وستة أشهر. ولكن بعضها احتاج إلى سنوات نظرا لصعوبات البحث. كما كانت هناك معلومات لم أستطع الحصول عليها وبالتالي كان يجب وقف العمل حتى نكتشف حقيقة الأمر». إنه الآن يقف أمام «رؤية تتخذ شكلا»، وهو أول المشاهد من الناحية التاريخية. وهو يظهر البيت الأبيض في مرحلة الإنشاء ويكشف عن أن المبنى يحتوي على القرميد أسفل واجهته الحجرية. وتستعين اللوحة بتقنيات البناء في القرن الثامن عشر. «لا يمكنني تصوير مجرد انطباع وبالتالي كان علي تصوير كل شيء أعرفه»، ذلك ما قاله وادل، مضيفا: «ولا أستطيع أن أشرح بالضبط لماذا كان الأمر على ذلك النحو. فقد أصبح من الضروري إظهار تلك الأشياء المحددة، ليس وكأنها قصيدة – على الرغم من أنني أتمنى أن تكون قد ظهرت كذلك أيضا». وينطبق الشيء نفسه على الموتيفات الأساسية للعديد من سجاجيد البيت الأبيض.. «لقد حاولت أن أنفذ ذلك بأسلوب (جون) سنغر سارغنت باستخدام فرشاة كبيرة. ولكن الموتيفات كانت على نحو ما ذات أهمية بالغة وبالتالي رسمتها. وعندما كنت أنتهي من رسم الموتيفات كنت أرسم خصلات الصوف». ويقول إنه خلال العمل «كلما توغلت في العمل، كلما استخدمت فرشا أصغر وهي ليست بالوصفة المثالية للصحة العقلية».
ويعد وادل رساما عتيق الطراز من ناحيتين.. فهو بشكل عام يصور الماضي ولكنه أيضا يحاول أن يوظف فرشاته، كما كان الفنانون يفعلون من قبل.. قبل التصوير الفوتوغرافي والفن التصويري. فهو توثيقي تصادف أنه يوثق أشياء لم تعد قابلة للتصوير.
«كنت أرغب في أن أخلق إحساسا ليس فقط بأن تلك اللوحات تنتمي إلى واشنطن في القرن التاسع عشر، ولكن كأنني رأيتها في القرن التاسع عشر وكأنني أراها بعيون القرن التاسع عشر. فكنت حريصا للغاية في الطريقة التي أصور بها الحيوانات، والأشخاص، والملابس. والطريقة التي كانت تلك الأشياء ترى بها قبل التصوير الفوتوغرافي. لأن الأشياء تغيرت إلى حد كبير منذ أن اعتمد الفنانون الواقعيون على التصوير الفوتوغرافي. فلم تكن الخيول قط بذلك الجمال! فقد فقدت شخصيتها تماما».
ويدرك وادل جيدا تاريخ ونظريات موضوعه ويقر بأن لوحات البيت الأبيض «تعج بمرجعيات تاريخية».
ولم يجد وادل سوى مجموعة قليلة لوجهات البيت الأبيض في القرن التاسع عشر، وعدد أقل للمبنى من الداخل.. «إنه أمر غريب. ولا أعلم السبب في ذلك فهناك صور بالمجلات ولكنها كانت عامة للغاية».
وليس أمام الفنان سوى أن يتخيل مظهر بعض الأشياء في تلك الرسوم مثلما كان الحال مع قالب الجبن الذي كان يزن 1400 أونصة والذي تبرع به فلاحو نيويورك وتم تقديمه في حفل الاستقبال الأخير للرئيس الأميركي أندرو جاكسون في 1837. ولكنه اعتمد على رصد تفاصيل تاريخية كانت ستصبح مفقودة حتى من قبل هؤلاء الذين يتأملون الصور مطولا. ومن الأمثلة على ذلك «الزيارة» التي تصور الرئيس لينكولن في مكتبه عام 1862. حيث إن الكتب الموجودة في الصورة هي نفس الكتب التي كان الرئيس لينكولن يطلع عليها في ذلك الوقت في مكتبة الكونغرس، كما أن الأغلفة والحواشي دقيقة للغاية.
وتأتي مثل تلك التفاصيل من الوثائق بما في ذلك القوائم التي احتفظ بها طاقم العمل بالبيت الأبيض والقصص الصحافية.. «لقد كانوا بالفعل كتابا ماهرين في القرن التاسع عشر. فقد كان جانب كبير من التغطية الصحافية بصريا – وكان الناس يذهبون إلى البيت الأبيض ويكتبون حول ما يرونه».
ومن بين الأشياء التي رصدوها كانت القطع المزينة والأقمشة المزخرفة والبناء بأسره حتى إن دقة تلك التفاصيل يمكنها إثارة دهشة الزائر المعاصر. وتظهر إحدى اللوحات إسطبلات الخيول التي تحاكي طراز الإمبراطورية الفرنسية الثانية في القرن الثامن عشر في واي ستريت في نورث ويست، التي هدمت في 1911. وتصور أخرى الصوبة الزجاجية من الداخل التي تم التضحية بها في إطار التحديث - ويلقي وادل باللوم على المعماري ستانفورد وايد الذي كان ضد الطراز الفيكتوري في 1902.
ولعل أكثر الأشياء الضائعة إيلاما هو «حاجز تيفاني» من الزجاج الملون الذي أمر بصنعه شيستر أرثر (الرئيس الأميركي ما بين 1881 – 1885)، وكان ذلك الحاجز يقف في مدخل القاعة من 1883 وحتى 1902، وقد فقد ألوانه بعد وصول الضوء الكهربائي وتم تخليده في لوحة وادل «الضوء العظيم».
نابض بالحيوية بل وربما مزخرف، لقد كان اللون مألوفا. لقد افترض إحياء فترة الثلاثينات الاستعمارية بأن المنازل الأميركية في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر كانت تطلى بالألوان الباهتة. ولكن وادل يقول إن ذلك ليس صحيحا: «أعتقد أن الذوق الحسن هو جزء من الأفكار الحديثة».. حيث تعج تلك الرسوم بفوضى من الأحمر والبمبي والبرتقالي في قاعة دولي ماديسون البيضاوية (المعروفة اليوم بالقاعة الزرقاء)، وقد تم تصميم القاعة الشرقية التي تعج باللون الذهبي من عصر جاكسون لي وكأنها الجانب الداخلي من مركب كبير، وفي نسخة 1883 من القاعة الحمراء التي صممها أيضا لويس كومفورت تيفاني يوحي استخدامه للون الأحمر بعمليات القلب المفتوح.. «لقد كانوا مهتمين بنظريات الألوان في تلك الفترة، فإذا ما استخدمت اللون الأزرق فعليك استخدام البرتقالي وبالتالي كانت الأمور مبهرجة للغاية».
وقام الرسام بتصميم إطار الحائط في قاعة دولي ماديسون بناء على نموذج وجده في صندوق للقبعات مع ملاحظة تؤكد وجوده في ذلك المكان.. «قال بعض المسؤولين عن المكان: لا يمكن أن تكون كانت موجودة في غرفة الرسم. لا يمكن أن تكون هناك. ولكنني لا أعتقد أننا لدينا أي فكرة عما يقصدونه بـ(هناك)».. «وقد لاحظت أنه عندما قام المسؤولون بإعادة ترتيب الغرف، أنهم لا يستخدمون اللون البرتقالي رغم أنه كان شائعا للغاية في القرن التاسع عشر، وذلك لأن الذوق الحالي لا يميل إليه».
يقترب من اللوحة الأخيرة التي تعرض لقطة لميدان لافاييت في 1902 قبل أن تحل المباني الإدارية محل المنازل. ويقول إنه قد رسم سماء تكسوها حمرة الأفق في المشهد، في إشارة إلى نهاية تلك الملحمة. ولكن بالنسبة إلى رسام مؤرخ في واشنطن، فهناك دائما ماض عليه استكشافه.
* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»