فيلمان مصري وعراقي يلقيان نظرة على بحر المتغيرات

السينما العربية ليست في مستوى الصناعة

مشهد من «حاوي» لإبراهيم البطوط
TT

تمر السينما الخليجية بمفترقات طرق عديدة وهذا طبيعي. المفترق الأول هو عبارة عن تحديات المرحلة. فلا يوجد في معظم دول الخليج الهيكلة الصحيحة لصناعة سينمائية، و - لنكن صريحين - لن توجد هذه الهيكلة قريبا. ما هو موجود هو محاولات فردية دؤوبة من قبل طموحين في مجالات عديدة، في الكتابة وفي الإخراج وفي التصوير وفي الإنتاج. هذه هي المقومات البشرية الضرورية، وهي موجودة في كل دول المنطقة من دون استثناء. لكن ما بعد ذلك، هناك إما مؤسسات جادة في سبيل بلوغ الغاية (لكن الغاية ذاتها في حاجة إلى تحقيق في بعض الأحيان) وإما لا مؤسسات حقيقية على الإطلاق.

ما يطلبه الأمر لتكوين سينما خليجية هو أسهل من المتصور، رغم ذلك فإن تنفيذه يتطلب التثبت من القدرة على تنفيذ التفاصيل.

تحديدا، وما تكشفه الدورة الحالية من مهرجان الخليج السينمائي الرابع، هو أن الجمهور الخليجي هو جمهور مهرجانات. لا توجد قاعدة شعبية للإنتاجات الخليجية. الإقبال على الأفلام الكويتية في الكويت، أو الإماراتية في الإمارات أو العراقية في العراق شبه معدوم إلا من خلال المهرجانات إذا ما أقيمت. مهرجان الخليج السينمائي صارت لديه سمعة طيبة في هذا المجال، إنه أفضل مهرجان للمواهب الخليجية كافة ولا يزال يكبر ويكبر بثقة تثير الإعجاب من قبل المؤيدين والتعجب من قبل أولئك الذين يغارون من نجاحه. لكن اعرض فيلما واحدا من تلك التي يحويها هذا المهرجان في السوق أمام جمهور مشتري التذاكر لتجد نفسك ترقب الوضع التجاري لهذه الإنتاجات على حقيقته: جمهور قليل جدا من المواطنين هم من سيتولون مشاهدتها لقاء مبلغ مالي. الغالبية الكاسحة هي تلك التي دائما تفضل التوجه إلى فيلم أميركي على مشاهدة أي فيلم آخر سواء أكان من ضمن المنطقة أم من مصر أم من دول عالمية أخرى.

هذا الواقع سيؤخر كثيرا نموا حقيقيا للسينما في دول الخليج. فالدولة التي لا سوق لها لا تستطيع أن تبني صناعة سينمائية فعلية، وهذا ليس مطبقا على أي من دول الخليج، بل على السينما الفنلندية أو السويسرية أو الكوستاريكية. ولننظر إلى الصناعات الحقيقية الموجودة حول العالم وسنجد أن صناعاتها ثابتة وموجودة بفضل وجود سوق محلية أو سوق عالمية (أو سوقين محلية وعالمية معا) للبلد نفسه.

هناك أولا الولايات المتحدة الأميركية التي لا حاجة للحديث عن مدى انتشار أفلامها محليا وعالميا.

في المركز الثاني، بحسب التعداد البشري المحلي هناك السينما الهندية.

في المركز الثالث تأتي السينما الفرنسية التي تستفيد من وجود سوق أوروبية محاذية لها (سويسرا وبلجيكا) بالإضافة إلى الإقبال الكبير على أفلامها داخل فرنسا.

في المركز الرابع السينما الإسبانية. هذه تستفيد جل استفادة من حقيقة أنها تملك سوقا محلية جيدة، كما من حقيقة أن تصدر سينماها إلى أميركا اللاتينية والجوار الأوروبي.

في المركز الخامس.. سينما متعددة ذات كم أقل لكنها قادرة على بلوغ حجم لا بأس به من المشاهدين كالسينما في ماليزيا أو إندونيسيا. السينما الإيطالية خسرت سوقها العالمية من حين غياب العباقرة ومن حين انهيار السينما التجارية التي صنعتها على غرار أفلام هوليوود، وذلك في مطلع الثمانينات. ما بقي لها هو السوق المحلية أساسا والسوق الفرنسية ثانيا، ذلك كله لمجرد التأكيد على أنه لا توجد صناعات حيث لا يوجد جمهور.

لكن هذا لا يعني أنه ليس بالإمكان أن توجد أفلام، وهذا هو الوضع الفعلي للسينمات في الخليج العربي: هناك أفلام وأفلام كثيرة تحركها مواهب بعضها يتقدم على البعض الآخر ومستعد لخوض غمار الحياة المهنية بكل ما تتطلبه من بذل ومشاق.

ما هو السبيل لإيجاد صناعة؟

قيام مؤسسات وطنية خليجية من مستثمرين من مختلف الجنسيات تحقق أفلاما يمكن أن تطلب وتستساغ من قبل كل دول المنطقة في آن واحد. هذا يعني حسن اختيار ومعرفة بالعناصر الصحيحة ووجود مستشارين عارفين ببواطن العملية السينمائية على اختلاف جوانبها. هذا يعني أن تلتف قدرات الأفراد الخليجيين معا وتتعاون بكل ثقة وتقدم في هذه المرحلة أعمالها من منظور جديد ومدروس. حينها فإن الفيلم الإماراتي سيستفيد من الأسواق الخليجية كلها معا. ولن يبق حكرا على جمهور واحد في هذا البلد أو ذاك.

هذه التحديات تتراءى كلما شاهدنا فيلما هنا خارج التقليد، وكلها تقريبا هي خارج التقليد على نحو أو آخر، بما فيها تلك القادمة، على سبيل الاستضافة، من دول خارج المنطقة الخليجية. أحد هذه الأفلام هو «حاوي» للمخرج المصري إبراهيم البطوط.

المخرج معروف اليوم كأحد أهم ما عرفته السينما المصرية من مخرجين مستقلين.. بل المرجح هو أنه المخرج المستقل شبه الوحيد في هذه الأيام لكون أفلامه لا تعتمد مطلقا على مقدرات التوزيع وعناصره، فهي لا تأتي بممثلين معروفين، ولا تكترث لطرق سرد سهلة، ولا تتبع خطوطا روائية يسهل احتواؤها وفهمها كقصة. هذا لا يعني أن أفلامه من «عين شمس» إلى هذا الفيلم، هي أفلام صعبة أو غير مفهومة، فقط يعني ذلك أنها لا تتطرق إلى مواضيعها على النحو التقليدي.

إنه حول أشياء عدة وشخصيات مختلفة تبدأ بلقطات داكنة لمعتقل، حيث تتم قيادة سجين إلى حيث يسمع كلمات آمرة: سيتم إطلاق سراحه، لكن أمامه عشرة أيام فقط لكي يعود بالوثيقة. ولن نعرف ما هي هذه الوثيقة ولا كامل أهميتها ولا من هي الشخصية الآمرة وما هي تحديدا الجهة المعتقلة. لكن اللقطات التالية ستظهره وهو يعيش حالات من الحسابات التي لن نعرف عنها شيئا إلا فيما بعد. في الوقت ذاته هناك ذلك العائد بعد غياب طويل حيث يحاول إخفاء هويته عن ابنته الشابة لكنها تكتشفها في النهاية.

يوسف (محمد السيد) المعتقل المفرج عنه ويوسف (إبراهيم البطوط نفسه) كلاهما عائد إلى طينة حياة ليست أقل عزلة وخطرا وكآبة مما كان عليه في عزلته. هذه هي صورة لمصر في حضيض من المشاعر والرؤى إلى واقعها ما قبل الثورة (وبعدها إلى أن يقع التطور المنشود) لكنها ليست كل الصورة. سيقدم لنا المخرج المزيد من تلك الشخصيات غير السعيدة (الوجوه غير المبتسمة شبه المعدومة) من بينها شخصية الراقصة حنان (رينا عارف) التي تتعرض للسرقة فتدخل قسم البوليس لكي تقدم بلاغا فإذا بالضابط يعتدي عليها لفظا وموقفا كما لو كانت هي المجرمة. مشهدها هناك، المؤلف من لقطة واحدة تستمر طويلا، هو من أقسى تلك المشاهد. إبراهيم البطوط نفسه يتمتع بشخصية لطيفة وناعمة، لكن صوره مدهمة وقاسية بمجرد رفضه تقطيع المشهد إلى لقطات متبادلة يسخر الفترة التي يحتلها المشهد بأكمله لتجسيد صادم.

لكن للفيلم مشكلاته في المقابل. كل ما سبق وفوقه عناية المخرج بتقديم الموقف والصورة على الحكاية يجعلان المتابعة الفنية مثيرة للاهتمام، لكنها لا تكفي أسلوبا لتعويض غياب اللحمات المطلوبة بين المشاهد، لذلك تبقى العلاقات بين بعض الشخصيات وأسبابها في الفيلم مجهولة أو غامضة. والمخرج يعلم بالتأكيد أن الأسلوب البديل للفيلم المستقل لا يعني بالضرورة حياكة نقاط التواصل بين الشخصيات المختلفة على نحو أفضل إلا إذا كانت الغاية من البداية جمع قصص غير متصلة وهي ليست الغاية هنا.

أحد أفضل الشخصيات هي شخصية العربجي (أحمد الدقاق) ليس لأنها واضحة (قائمة بذاتها وليست لديها أجندات سوى الرغبة في إنقاذ حصانه من اعتلال الصحة أو الموت) فقط، بل لطبيعتها الشعبية. شخصية غير مثقفة تعكس وضعا إنسانيا أعلى من سواها ولو أنه أيضا فطري.

تجسيد لوضع عام فيلم آخر يسترعي الاهتمام (وخارج المسابقة أيضا) هو الفيلم العراقي «كرنتينة» لعدي رشيد. النصب المكاني والدرامي المختار لمعظم الأحداث بيت من طابقين: في الطابق السفلي عائلة مكونة من الزوج وزوجته والابنة والولد الأصغر. في الطابق العلوي قاتل محترف تعهد إليه مهام من الاغتيالات المتفرقة. الفيلم لا يحدد سنة أحداثه لكن المفهوم الواضح هو أنها الفترة الحالية من العراق حيث هناك استباحات للإنسان يجسدها المخرج عبر شخصياته.

القاتل يستبيح (ومن يقف وراءه) قتل الآخرين (غير مسلحين وعادة أساتذة أو أطباء أو مفكرين).

الأب يستبيح معاملة عائلته على نحو قاهر وعنيف. ليس على نحو شرير، بل انعكاس لحالة رجل يقبع بدوره تحت عبء مجتمع لا يعرف شيئا من صلات الرحمة والعلاقات الإنسانية. هو بدوره ضحية خارج البيت يتولى دور الجلاء داخله. أما الزوجة فتمتنع عنه وتخونه مع القاتل أعلاه. رغم ذلك فإن المخرج بعيد عن لعب دور القاضي وإدانتها. كل ما يدور هو تفسير لوضع اجتماعي قائم ينضح بالضغط الذي لن ينتهي إلا بنتائج وخيمة ولو أنها ليست واعدة بتغيير نحو الأفضل.

«كرنتينة» فيلم جيد تكوينا ومن حيث تنفيذ معظم مشاهده. لكنه ضعيف تمثيلا. التشخيص الذي يقوم به الممثل ألاء نجم، لا يترك عند المشاهد أي أثر لأنه غير قادر على تعميق اللحظة. ووضع فتاة العائلة (تضرب عن الطعام والكلام لكنها بعد ستة أيام ما زالت قادرة على التحرك من دون أثر أو ضعف يذكران) كان في حاجة إلى بعض التعديل. الصمت المستخدم ليس بليغا لكنه واف بالحاجة إليه. ما يجعله عملا جيدا يكمن في «التوضيبة» الدرامية والجغرافية للمكان، كما في كتابة موضوع لا خلاف في أهميته على صعيد تجسيد الحدث ليكشف عن وضع أعم من دون الاضطرار إلى الخروج من ذلك المكان أو الذهاب بعيدا عن تلك الشخصيات إلا في لحظات معدودة ومطلوبة.

إضافة إلى ذلك، هناك قدر كبير من التعامل الطبيعي مع الأحداث ومفارقاتها. ليس لدى المخرج أي حاجة لافتعال في الموقف. ولولا أن حركات الكاميرا تصبح مألوفة أكثر بقليل مما يجب (أفقي من اليسار إلى اليمين عادة) لأمكن إضافة التصوير إلى خاماته الأكثر تميزا.