ضرورة الاهتمام بدراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية لفهم التحولات الحالية

في ظل الواقع الاجتماعي وثورة الجيل العربي الجديد

تعد العلوم الاجتماعية من بين العلوم المهمة والضرورية التي تكتسب أهمية متزايدة في الوقت الحالي، لفهم ودراسة التحولات والتغيرات الاجتماعية والسياسية الحادثة (أ.ب)
TT

أكدت المظاهرات والاحتجاجات العنيفة والمتزايدة في الشارع العربي في الآونة الأخيرة على أهمية الحاجة الشديدة لإجراء أبحاث ودراسات دقيقة ومبكرة ومستمرة لفهم الواقع الاجتماعي للمجتمعات العربية وشخصيات وسلوك واتجاهات الأفراد، وبخاصة في ظل الوقائع الاجتماعية العالمية الجديدة.

ففي كل دولة ومجتمع تكاد تكون هناك حاليا وقائع اجتماعية تفرض نفسها وتميز كل مجتمع وتحتاج في الوقت نفسه إلى دمج الأبعاد الاجتماعية العالمية لفهم المجتمعات المحلية وإنتاج معرفة تستوعب الواقع الاجتماعي العالمي الجديد.

وتعد العلوم الاجتماعية والإنسانية كعلم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي وعلم النفس وعلم النفس السياسي والاجتماعي وعلم نفس الانفعال، من بين العلوم المهمة والضرورية، التي تكتسب أهمية متزايدة في الوقت الحالي، لفهم ودراسة التحولات والتغيرات الاجتماعية والسياسية الحادثة في أي مجتمع وخصوصا مع الأحداث الجارية في المجتمعات العربية.

ويؤكد التقرير العالمي للعلوم الاجتماعية بعنوان (الفجوات المعرفية)، الصادر في يونيو (حزيران) من العام الماضي عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) والمجلس الدولي للعلوم الاجتماعية، على أن العالم الآن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى العلوم الاجتماعية للتصدي للتحديات الكبيرة التي تواجه البشرية. وأشار التقرير، الذي يشكل أول استعراض شامل لمجال العلوم الاجتماعية منذ أكثر من عقد وأسهم فيه مئات من علماء الاجتماع من شتى أنحاء العالم، إلى أن العلوم الاجتماعية لا تسهم بالقدر اللازم في رفع هذه التحديات نتيجة لأوجه التفاوت الهائلة في القدرات البحثية.

وقالت إيرينا بوكوفا المديرة العامة لمنظمة اليونيسكو «إن علماء الاجتماع ينتجون أعمالا تتسم بجودة استثنائية وبقيمة علمية هائلة، لكن كما يفيد هذا التقرير تمثل المعارف المتعلقة بالعلوم الاجتماعية في غالب الأحيان أقل المعارف تقدما في المناطق التي تشتد فيها الحاجة إلى هذا النوع من المعارف. وتؤكد على أن هذا التقرير يعيد التأكيد على التزام اليونيسكو لصالح العلوم الاجتماعية وكذلك على رغبتنا في تحديد جدول أعمال عالمي من أجل النهوض بهذه العلوم على اعتبار أنها أداة ثمينة جدا لتحقيق الأهداف الإنمائية المتفق عليها دوليا».

وقال غودموند هيرنيس، رئيس المجلس الدولي للعلوم الاجتماعية «إن العلوم الاجتماعية باتت تتسم بطابع عالمي حقيقي حيث إنه يتم تدريسها بالفعل في كل مكان، كما تنتشر نتائج بحوثها على نطاق واسع» ويذهب إلى أنه «إذا كان على العالم التصدي للتحديات التي يواجهها في الوقت الراهن وفي المستقبل فإنه يحتاج بصورة حيوية إلى مزيد من العلوم الاجتماعية التي ينبغي أن تتسم بنوعية أجود، وهو ما يتطلب فهم كيفية مسيرة العالم وعلى أي نحو يتفاعل الناس بعضهم البعض».

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه: ما الأسباب التي تجعل العلوم الاجتماعية والإنسانية أكثر أهمية؟

للعلوم الاجتماعية والإنسانية دور مهم في فهم وبناء الفرد وبنية المجتمع، حيث تسهم في رصد وفهم وتحليل الظواهر الإنسانية والتغيرات والتحولات والمشكلات والقضايا المجتمعية واقتراح الحلول المناسبة والسيطرة عليها، كما تسهم هذه العلوم في الارتقاء بالمستوى الحضاري والفكري والقيمي للإنسان والمجتمع، وحفز ودعم التغيرات والتحولات الإيجابية مبكرا حتى لا تحدث في اتجاه مخالف لصياغة بنية المجتمع.

يرى علماء الاجتماع أن بوابة الخطورة في أي مجتمع هي بنيته، فإذا حدث خلل في بنية المجتمع، فإن هذا يؤدي لإضعافه وإنهياره. ولهذا تفيد دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية في مراجعة بنية المجتمعات مبكرا لفهم مواطن الضعف والخلل التي تهدد بنية وتماسك المجتمع والتوصل لأفضل الأساليب لتقويتها، لتحقيق سلامة الفرد والمجتمع ومنع من له مصالح من الأفراد والمجتمعات الأخرى من التدخل لاختراق بنية المجتمع.

ولا شك أن تفاقم الاحتجاجات والتظاهرات والثورات والتحولات والتغيرات السياسية والاجتماعية العربية الحالية، ما هو إلا دليل على عدم تفعيل والاهتمام الجاد بالعلوم الاجتماعية والإنسانية ودعمها ماديا ومعنويا بالشكل الكافي، إذ إن رصد والتعرف مبكرا على إرهاصات بعض الظواهر والمشكلات والتحولات السلبية في بنية المجتمع، وكذلك إبراز اتجاهات الشباب السياسية والاجتماعية والثقافية في مجتمعاتنا، من خلال دراسات وبحوث علمية منهجية جادة سوف يفيد في السيطرة مبكرا على هذه التغيرات الاجتماعية والسياسية الحادثة، وقد يكون لدى العلماء والباحثين في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية عذرهم في ذلك، فقد يتعرض بعضهم للتضييق والقمع والمعاناة، كما يكون لدى بعضهم صعوبة في الحصول والوصول للبيانات والإحصاءات الدقيقة الخاصة بالأفراد والمجتمع وبخاصة ما يتعلق بالجهات والمؤسسات الحكومية والخاصة، أو قد تفسر أبحاثهم في مجالات بعينها على بنية المجتمع كالتغير السياسي والاجتماعي وحقوق الإنسان، بأنها مثار شك بأن لديهم أهدافا سياسية أو أجندات خاصة من وراء القيام بها.

فتهميش العلوم الاجتماعية والإنسانية والتقليل من قيمتها وعدم إدراك دورها المهم في إعداد وبناء المواطن الفاعل وتعزيز سلوكياته واتجاهاته الإيجابية السوية وكذلك في صياغة فكر واتجاهات وقيم المجتمع، وفي دراسة وفهم التحولات والتغيرات والمشكلات التي يعاني منها الفرد والمجتمع والوطن والعالم من حوله، قد يكون ذلك أحد الأسباب المهمة التي أدت إلى قيام المظاهرات والاحتجاجات والثورات الجارية حاليا في منطقتنا العربية.

ولقد أدركت الدول المتقدمة أهمية هذه العلوم فأسست ودعمت العديد من مؤسسات ومراكز البحوث والدراسات الاجتماعية والإنسانية، للقيام بدراسات جادة ودقيقة، ليس فقط لدراسة أفرادها ومجتمعاتها، بل أيضا لدراسة والتعرف على مواطني ومجتمعات الدول الأخرى.

لقد أصبحت هناك حاجة ماسة لدينا للاهتمام بالعلوم الاجتماعية والإنسانية ودعمها بالقدر الذي يتناسب مع قيمتها وأهميتها المتزايدة لفهم وتحليل مجتمعاتنا العربية المعاصرة، وكذلك الإسراع في الدعم والتمويل الكافي لمراكز ومؤسسات وكليات وأقسام العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتأسيس مراكز بحوث أخرى حديثة تركز على موضوعات ومجالات بعينها أفرزتها الأحداث الجارية مثل ثقافة التظاهرات وسيكولوجية المتظاهرين والمواطنة والانتماء والهوية والمسؤولية الاجتماعية والمشاركة والاتجاهات السياسية وتحليل وحل الصراعات وبنية وتماسك المجتمع والتخطيط الاجتماعي ومنظومة القيم والاتجاهات والرأي العام والمسؤولية والفضاء الإلكتروني والإعلام الجديد، لرصد وفهم وتفسير الظواهر والسلوكيات والمشكلات والقضايا الاجتماعية السلبية في الفرد والمجتمع مبكرا، وتقديم الحلول العلمية والعملية والبرامج والإجراءات الوقائية المناسبة لبناء الإنسان وتطوير وتحديث المجتمع وبما يراعي خصوصياته، وتشجيع ودعم الطلاب والباحثين للدراسة والتخصص في العلوم الاجتماعية والإنسانية عن رغبة لإعداد مزيد من العلماء والمبدعين فيها، مع إفساح المجال أمام العلماء والباحثين في هذه العلوم ودعمهم ماديا ومعنويا للمساهمة في إجراء بحوث علمية دقيقة وجادة تسهم في وضع تصورات شاملة تفيد في فهم سلوكيات واتجاهات الأفراد وبنية المجتمعات واستشراف حاضرها ومستقبلها وبخاصة مع التغيرات والتحولات المتسارعة التي تشهدها مجتمعاتنا والعالم.