الفنانة سيتا هاكوبيان: الغناء هو حياتي.. والسينما شغفي

قالت لـ «الشرق الأوسط»: متفائلة بظهور أصوات غنائية عراقية راقية تكمل مسيرتنا

المغنية سيتا هاكوبيان («الشرق الأوسط»)
TT

لا تتذكر متى بدأت الغناء، لأنها وبكل بساطة وُلدت مغنية، وحسب عائلتها، فإنها كانت تغني منذ أن كان عمرها أقل من أربع سنوات، ولا عجب في ذلك، لا سيما أنها جاءت إلى الدنيا بينما كان والدها، أرشاك بدروس، يعزف على البيانو ويغني محتفيا بمولدها، وترعرعت في بيت مؤثث بالموسيقى وبمكتبة موسيقية تضم عددا كبيرا من «الاسطوانات السوداء» للموسيقى الكلاسيكية، وآخر الأغاني العربية والغربية، وكان عمها، جميل بطرس، هو الآخر، موسيقيا. بل الأهم من هذا وذاك هو أن المغنية، سيتا هاكوبيان، ولدت في مدينة البصرة التي يعشق أهلها الموسيقى والغناء، بل إنهم يعتبرون هذه الفنون جزءا من روح وثقافة المدينة وعاداتها. تقول: «أنا منذ وعيت الدنيا أغني، منذ أن كان عمري أقل من أربع سنوات وأنا أغني، والدي كان عازف بيانو ويغني ويكتب مسرحيات غنائية باللغة الأرمنية في النادي الأرمني في البصرة».

سيتا، التي تعرف المستمعون إلى صوتها وهي طالبة مؤدية ببراعة أغاني فيروز، ولقبها الناس بأنها «فيروز العراق»، بدأت مشوارها بأغنية خاصة بها، مع قصيدة «الوهم» للشاعرة نازك الملائكة، وألحان حميد البصري. وهي لا تعرف معنى النجومية، لأنها بدأت نجمة، خاصة في حفلات النادي الأرمني بالبصرة، وفي مدرستها، ومن ثم تألقت في أول أوبريت غنائي عراقي متميز «بيادر الخير»، الذي قدمته الفرقة البصرية عام 1969، قبل أن تنتقل إلى بغداد التي سبقتها إليها شهرتها كمغنية من طراز خاص.

ومنذ أن أعلنت سيتا، وبلا سابق إنذار، توقفها عن الغناء في نهاية الثمانينات، ولأسباب لم تفصح عنها، لتدرس الإخراج السينمائي في معهد الفنون الجميلة، ندرت حواراتها الصحافية، خاصة بعد أن غادرت العراق مع زوجها المخرج التلفزيوني المبدع، عماد بهجت، وابنتيها، نوفا ونايري، في بداية التسعينات لتستقر أولا في كندا ثم في قطر، وخلال زيارة عابرة إلى لندن مؤخرا تحدثت معها «الشرق الأوسط» في حوار عن مرحلة ثقافية كانت زاهية بالموسيقى والغناء والمسرح، تلك حقبتا الستينات والسبعينات، اللتين تألقت فيهما كمغنية إلى جانب أصوات نسائية ظهرت وقتذاك، تتحدث عن ذلك قائلة: «في فترة السبعينات ظهرت الكثير من الأصوات النسائية، كانت الفنانة مي تغني للأطفال، وكذلك ثلاثة أخوات كن في عمر الطفولة: حنان وسحر وبيداء، وظهرت أديبة وأنوار عبد الوهاب، وسهام، وبرزت أصوات كثيرة، وكل واحدة أخذت طريق مختلف، فالسبعينات سادتها أجواء فنية بحتة، فنحن كنا نهتم بإنجازنا الإبداعي، مع أن الإعلام لم يهتم بنا كثيرا، ولم نسعَ إلى المال، فأنا كنت أنتج أغنياتي من مالي الخاص، لكننا حافظنا على مستوى راق في الغناء، في وقت كان من الصعوبة أن نسمي فيه هذه مغنية أو ذاك مغنٍّ، ما لم يجتز اختبارات عسيرة أمام لجنة متخصصة من الملحنين والموسيقيين الأساتذة في الإذاعة والتلفزيون»، منبهة إلى أنها «لم أمر من خلال هذه اللجنة، كوني جئت إلى الإذاعة والتلفزيون وأنا مغنية أساسا، بل إن اللجنة كانت قد جاءت إلى البصرة للبحث عن الأصوات الجديدة، وهي التي اختارتني، بعد أن سمعوا صوتي في مدينتي، وظهرت ضمن الوجوه الجديدة في أغنية (الوهم) قبل أن أظهر في أوبريت (بيادر الخير)، أي أنني كنت مجتازة لمرحلة الاختبارات».

في بغداد، ووسط زحمة وتنوع الأصوات النسائية، كان على سيتا أن تختار طريقا خاصا بها وأسلوبا يميزها في الغناء، وهذا يبدأ من اختيارها لكلمات الأغاني واللحن، تقول: «كنت انتقائية جدا وأغير كثيرا من كلمات الأغاني مع الشعراء، وكنت أتعب الملحنين، ولا أرضى بسهولة، وهناك أغان كثيرة رفضتها لأنها لا تناسبني، فالأغاني كانت تُكتب خاصة لي، واخترت أن أزاوج بين الأغنية العراقية والأسلوب الغربي الذي سيتيح لي بالتالي أسلوبا جديدا في الأداء، لهذا طلبت من الشاعر، طالب غالي، أغنية خفيفة فكتب (ليل السهر)، ثم (بهيدة) و(دروب السفر)، وكنت أقترح المواضيع التي أريد غناءها على الشعراء».

ومع أنها لا تطلق على نفسها صفة الممثلة، فإنها مثلت بالفعل في أعمال مهمة؛ بدءا بأول أوبريت عراقي متميز «بيادر الخير»، تقول: «بعد (بيادر الخير) مثلت وغنيت في سهرة تلفزيونية (شهر عسل في الرميلة)، وكنت أسوأ ممثلة في هذا العمل، خاصة أنه كانت أمامي الممثلة المبدعة زينب، التي أدت دور أمي، ثم مثلت أربع حلقات في (الطائر الأسود) عن المطرب في العصر العباسي، زرياب، وغنيت فيه 4 أغان من ألحان روحي الخماش، وإخراج إبراهيم عبد الجليل، في هذا العمل أستطيع القول إني برزت كممثلة، كما مثلت مع المخرج حسن حسني، و10 حلقات مع المخرج حسين التكريتي، وكذلك مع المخرج عماد بهجت، وكنت بهذه الأعمال ممثلة جيدة».

سيتا تنتمي إلى ثقافة وإلى جيل لا يقلل من شأن الآخرين، بل على العكس، فهي تتذكر من سبقها ومن تعلمت منهم بإكبار وبإخلاص، فعندما دار الحديث عن الأصوات النسائية المتميزة في الأغنية العراقية، تذكرت بإعجاب المغنية البارزة، مائدة نزهت، التي أثرت في تاريخ الغناء العراقي، تقول عنها: «مائدة نزهت مطربة رائعة، أنا سمعت كل التراث الغنائي العراقي، وخاصة المطربات، لم تأت أي مطربة بمقدرة وإبداع وصوت مائدة نزهت التي كانت قادرة على أداء جميع ألوان الغناء العراقي، حتى الآن لم تأت أي مطربة مثلها، وهي ستبقى العلامة البارزة والمميزة في الأغنية العراقية على الإطلاق، وأنا تأثرت بها كثيرا، ومَن لم تتأثر بها؟! أنا سافرت معها مرات كثيرة، كانت تشجعني كأمي، تشعرني بأني ابنتها الموهوبة التي يجب أن تشجعها وتمنحها خلاصة تجاربها، مع أنها عملاقة بالنسبة لي، وغالبا ما كنا نتقاسم غرفة النوم في الفندق خلال السفرات لأداء حفلة هنا أو هناك في بلد عربي أو أوروبي، وكانت فرصة لي لأن أكتشفها كإنسانة أكثر، أما المطربة الكبيرة عفيفة إسكندر فهي اسم مميز في الغناء العراقي، وقد سافرت معها أيضا وكانت تتعامل معي كأم»، وعندما نسألها عن سبب انحسار الأصوات النسائية بعدما كانت هناك زحمة بأسماء مغنيات رائعات منذ الثلاثينات وحتى السبعينات من القرن الماضي، تجيب: «حقيقة لا أدري ما هو السبب، وقتذاك كانت العلاقات والعادات الاجتماعية أكثر رقيا وانفتاحا، والمستوى الثقافي أكثر اتساعا وعمقا، لم يكن هناك من لا يقرأ الروايات والدراسات، كنا نقرأ أي كتاب يقع بأيدينا؛ روايات أو دراسات أو تاريخ أو أديان، قرأنا شكسبير وتولستوي وألبير كامو وفيكتور هوغو ونجيب محفوظ وغيرهم، وكنا نتبادل الكتب فيما بيننا. أعتقد أن سبب غياب الأصوات النسائية هو الوضع السياسي والاجتماعي المرتبط بالسياسي، أنا متأكدة من أن هناك أصوات نسائية جيدة اليوم في العراق ونحن لا نعرف عنها أي شيء، كل هذا مرتبط بالوضع العام، كل شيء انحسر تدريجيا في الغناء والمسرح والسينما والتلفزيون حتى صعدنا إلى الهاوية»، مستطردة: «لكنني مؤمنة بأن الأرض العراقية هي أرض معطاءة ومهما تظهر نشازات في الأصوات، فإنني على يقين بأنها ستظهر أصوات عراقية جديدة مبدعة تكمل مسيرة الغناء العراقي».

رصيد أغاني سيتا هاكوبيان 75 أغنية، والمعجبون بصوتها يبحثون عن أغانيها في «يوتيوب»، وهي تحاول اليوم وبالتعاون مع شركة كندية تنقية بعض التسجيلات لأغانيها كي تتيح لجمهورها الاستماع إليها، تقول: «للأسف ضاع أرشيف الإذاعة والتلفزيون وتناثر قسم كبير منه هنا وهناك، ولو كنا ندري بما سيحدث لاحتفظت بكل أرشيفي الغنائي». إلا أن سيتا، وبعد أن توقفت عن الغناء، لم تترك فضاء الإبداع، بل انتقلت إلى مجال إبداعي آخر، ألا وهو الإخراج السينمائي الذي درسته في معهد الفنون الجميلة، ولكن لماذا الإخراج السينمائي؟ تجيب: «لأنني أحب السينما، ارتبطت بها منذ طفولتي، حيث كانت عمتي تأخذني مع صديقاتها لمشاهدة آخر الأفلام السينمائية كل يومين في نادي الميناء الرياضي بالبصرة، إذ كانت هناك سينما صيفية، وعلاقتي بالسينما دفعتني لاقتراح أفكار إخراج وتصوير أغانيَّ».

وتلخص المسافة بين الغناء والإخراج السينمائي كمنجزين إبداعيين بقولها: «الغناء كان معي مثلما الكلام، لم أذهب إليه، ولم يأتني، بل كان في داخلي دائما، ولم أشعر بأنه طارئ، أما السينما بالنسبة لي فهي شغف، لكن الغناء هو حياتي، وأنا أعتز بكل الأغاني التي أديتها بكل سلبياتها وإيجابياتها، فهي تاريخي وحياتي وتفاصيل أيامي».

نسأل سيتا عن العراق، وما إذا زارته منذ أن غادرته، تسرح ببصرها بعيدا، كأنها تبحث بين تفاصيل ذاكرتها عن مشاهد حياتها، تقول: «لم أزر العراق منذ أن غادرته. في العام الماضي كنت في رحلة مع زوجي وصادفت يوم عيد ميلادي، وعندما حل المساء أسدلت المضيفات ستائر الطائرة، ولأنني لا أستطيع النوم في الطائرة فقد كنت أراقب مسار الطائرة على الخارطة فوق الشاشة التي أمامي، فعرفت في تلك اللحظة أننا نحلق فوق بغداد، فأزحت الستارة قليلا لأشاهدها، فإذا بي أرى شعلة نار مصفى نفط الدورة، فغرقت ببكاء أيقظ زوجي من النوم، وسألني عن السبب فقلت له: انظر هذه بغداد، كانت أنوارها تبدو مثل الورود، ولا أدري إن كانت هي كذلك أم أني شاهدتها هكذا، واعتبرت هذه المصادفة هدية من الله تعالى لي في عيد ميلادي. أما البصرة التي ولدت وترعرعت فيها فهي روحي، والأصدقاء ينصحوني بعدم زيارتها حاليا لأنها تغيرت كثيرا».

نوفا، الابنة الكبرى لسيتا هاكوبيان، هي الأخرى تغني، تؤدي أغاني عراقية بحتة، نسألها فيما إذا ورّثت موهبتها لابنتها، فتقول: «ابنتي نوفا غنت قبل أن تتكلم، وعندما نطقت تعلمت وهي أقل من عامين ثلاث لغات، هي العربية والأرمنية والكردية، وكانت تردد الترانيم قبل أن تتكلم، ودرست فترة من الزمن البيانو، وهي تغني أغاني عراقية في كندا، أما ابنتي الأصغر نايري فقد درست الإخراج السينمائي».