مهرجان «الجزيرة».. عيون عربية وأجنبية ورؤية سينمائية واحدة

أمل دنقل بطل فيلمين من مصر وإيطاليا

TT

أكثر من فيلم حمل في مهرجان «الجزيرة» زاويتي رؤية عربية وأجنبية على الرغم من أن الحدث يتناول شخصية عربية.. عين إبداعية مشتركة جمعت بين المخرج المصري «أيمن الجازوري» والمخرجة الإيطالية «كريستينا بوكياليني»، حيث توجه الاثنان إلى الشاعر الكبير الراحل ابن صعيد مصر «أمل دنقل».. قدما شاشة إبداعية تنضح بعمق شعر «أمل دنقل» الذي تجد فيه الفيلسوف والناسك والمتمرد.

كان «أمل» قد أصيب بمرض السرطان وواجه الموت قبل ربع قرن وسجلت تلك اللحظات المخرجة التسجيلية «عطيات الأبنودي» التي كانت في ذلك الوقت زوجة للشاعر «عبد الرحمن الأبنودي» الصديق الأقرب إلى «أمل» حيث إنهما من قريتين متجاورتين من محافظة قنا. «الغرفة» كان هو عنوان فيلم «عطيات» بينما «بصمات أمل دنقل» كان هو عنوان الفيلم الذي شارك ونافس على جوائز الفيلم القصير في مهرجان «الجزيرة». مزج المخرجان بين الموسيقى الفلكلورية والرسوم الكاريكاتيرية التي بها نبض الصعيد كما استضافا أسرته؛ أمه وأخاه وأرملته «عبلة الرويني»، وجرى تصوير أجزاء عديدة من الفيلم داخل بيته القديم، حيث نكتشف أن مشاعر «أمل» وفكره تفتحا على مكتبة والده التي كانت تضم أمهات الكتب الأدبية. وسجل رأيه عن «أمل» عدد من الأصدقاء بينهم «الأبنودي» و«د.جابر عصفور» والشاعر «بهاء جاهين». ونكتشف أن «دنقل» وحتى اللحظات الأخيرة كان محتفظا بروحه الساخرة المتطلعة حتى للتصالح مع الموت، حتى إنه قال لأخيه الصغير إنه يستمع بخياله إلى أغنية نجيب الريحاني وليلى مراد «عيني بترف وراسي بتلف وعقلي فاضله دقيقة ويخف».. كما أنه منح «جابر عصفور» كل ما معه من أموال حتى يتم نقل جثمانه بالطائرة إلى مسقط رأسه في قنا على نفقته الخاصة. كانت قصيدته التي ينتقد فيها الصلح المصري مع إسرائيل «لا تصالح» هي واحدة من أهم وأروع القصائد التي تناولت بالرفض اتفاقية السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل ولا تزال حتى الآن، كلما احتج المواطنون العرب في أي مكان على الممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين لجأوا إلى هذه القصيدة التي تعتبر أن الصلح يشبه من يمنحك شيئا ماديا «مقابل» أن يفقأ عينيك لأنها أشياء لا تشترى. تحدث أيضا أكثر من ضيف في الفيلم بالتحليل النقدي عن خصوصية الشاعر واختياره لتلك المفردات التي جعلت من أشعاره حالة خاصة بين كل المبدعين، فهو جاء حلقة متوسطة بين جيل الشاعر «صلاح عبد الصبور» الذي يعتبر رائد الشعر الحديث في مصر والأجيال التالية له. الفيلم أخذ روح قصائد «أمل دنقل» وأحالها أيضا إلى قصيدة سينمائية. ومن سويسرا أطلت ملحمة السيرة الهلالية، أشهر الملاحم العربية، من خلال عين غربية هي المخرجة «جبسي ساندا» وعين عربية المخرج «عبد المحسن أحمد». ينقل المخرجان أجواء السيرة الهلالية من مبدعيها الذين تناقلوها عبر الأجيال بل وتوارثوها من جيل إلى جيل لتستقر في الوجدان باعتبارها مخزونا شعبيا. الفيلم يوثق السيرة الهلالية من خلال شهودها الأحياء من مبدعيها، وفي الوقت نفسه يقدم دراسة عن سر خصوصية سيرة بني هلال في الوجدان العربي، حيث صارت مرادفا للبطولة العربية عبر الزمن. حاول المخرجان إيجاد حالة من الربط النفسي بين شخصية «عبد الناصر» والبطل الأسطوري «أبو زيد الهلالي» ولم تكن تلك الرؤية في الحقيقة موفقة، كان بها ولا شك قدر من التعسف. ومن النمسا شاهدت فيلم «ألبرت شوايتزر - ماهية القديس» للمخرج «جورج ميتش»، حيث قدم حياة هذا الطبيب الألماني الحاصل على جائزة «نوبل» للسلام.. كان الطبيب قد اختار أن يذهب إلى أدغال أفريقيا ليساعد على شفاء المرضى في عدد من الدول التي عاشت تحت وطأة المرض.. هذا الطبيب، الذي نذر نفسه لهؤلاء المرضى، آمن بأن الإنسان عليه أن يخرج بعيدا عن ذاته والدائرة المحيطة به ليملك رؤية كونية، ولهذا قرر أنه كطبيب لن يستطيع أن يقدم شيئا لبلده الأصلي ألمانيا ولكنه لو انطلق بعيدا في العالم لاكتشف آفاقا أخرى وعوالم نائية تتوق للحياة بعيدا عن قسوة المرض الذي لا يرحم في أفريقيا.. حرص على ألا يصطدم بالطب الشعبي، تلك المعتقدات الأفريقية التي ترى في المرض روحا شريرة ينبغي أن تخرج بعيدا عن الجسد، حاول أن يوقظ الجانب الأسطوري بداخله حتى يتعايش مع المجتمع، وفي الوقت نفسه لا يرفض بعض الطقوس ويقدم أيضا العلاج العلمي ليتغلب على المرض. أحداث الفيلم تعود إلى زمن الثلاثينات من القرن الماضي وتنقل كل التفاصيل السياسية والاقتصادية والعلمية التي عاشها العالم في تلك السنوات وتتوقف كثيرا أمام «ألبرت شوايتزر» الذي اعتبروه في أوروبا هو الوجه الآخر للزعيم الأفريقي العظيم «نيلسون مانديلا».. (مانديلا حمل رسالة التحرر والتعايش الوطني). «ألبرت» كان يعلم أن المرض والجهل يفتك بالشعوب الأفريقية ولهذا تصدى له ووضع على كاهله رسالة تحمل في عمقها أن البشر واحد لا فرق بين الناس لا بالأعراق أو الأديان أو الألوان.