أثر العرب الثقافي عبر طريق الحرير في ندوة في اليونيسكو

الباحثة العراقية دلال نجم الدين تسترجع عظمة دور بغداد يوم كانت «مدينة السلام»

TT

أي تأثير ثقافي كان للتجار العرب، على المناطق التي مروا بها في رحلاتهم عبر طريق الحرير؟ هذا ما حاولت أن تتوقف عنده دلال نجم الدين، نائبة الممثل الدائم للعراق في اليونيسكو، من خلال بحث واف قدمته في الطاولة المستديرة التي استضافها مقر المنظمة في باريس، مؤخرا، تحت عنوان «دور طريق الحرير في التقريب بين الثقافات».

تعود بدايات هذا الطريق التجاري العظيم الذي ربط الشرق بالغرب إلى عصور الحضارات القديمة، الفرعونية والبابلية والفينيقية والرومانية والصينية. فعلى امتداد 10 آلاف كيلومتر، لم ينقل التجار بضائعهم ومحاصيلهم فحسب، بل نشروا ثقافاتهم ومعتقداتهم عبر الصحاري والجبال. فقد شيد السومريون معابد تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وأنفقوا على تطوير طرق التجارة التي جاءت لهم بالمعادن والأخشاب والأحجار الكريمة وغيرها من بضائع. وفيما بعد، على مر العصور وبزوغ حضارات جديدة، صارت مدنا تقع على طريق القوافل التجارية، مثل سمرقند وبخارى، مراكز متطورة في الفن والعمارة، تلفت أنظار التجار الذاهبين إلى آسيا الوسطى ومنها إلى الهند والصين، وتشكل نقاطا مضيئة مثلها مثل عدد من مدن العراق وإيران وأفغانستان التي صارت تشكل منطقة اقتصادية واحدة كبيرة.

ذلك الانتقال الحر للبشر وللبضائع ساهم، بالتأكيد، في حرية انتقال الأفكار التي بشر بها حكماء وعلماء ورحالة ما زالت أضرحتهم موزعة على امتداد طريق الحرير. وكانت العقيدة الإسلامية قد انتشرت في تلك البلاد، مع ما رافقها من حركة عمرانية تمثلت في تشييد المساجد والمدارس والمزارات والخانات التي ساعدت في التحاور الثقافي والحراك الفكري بين الأقوام الذين عاشوا في تلك البلاد. كما تشير الآثار المكتشفة أو الباقية في المنطقة إلى الثراء الحضاري، لا في المباني فحسب بل في فنون الرسم والنقش والتزجيج والتلوين والموسيقى والأزياء وآداب المائدة. فالتجارة، عبر طريق الحرير، لم تكن محصورة في المعنى الضيق للبيع والشراء بل كانت تتعدى ذلك إلى نطاق أوسع من الاتصال والتمازج الاجتماعي والتلاقح الثقافي وتبادل الأفكار وحتى الأساطير. لكن ذلك التفاعل لم يكن سهلا دائما، وذلك بسبب النزاعات والحروب والأوبئة والمجاعات التي ضربت المنطقة. مع هذا، فعندما كان يغلق طريق ما أو جزء من طريق، فإن طرقا أُخرى كانت تفتح، برية أو بحرية، لكي يستمر التواصل على مر التاريخ.

وتوقفت دلال نجم الدين، في بحثها، عند تاريخ مهم من أواسط القرن الثامن الميلادي عندما بادر الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور إلى بناء بغداد لتكون عاصمة جديدة للخلافة، وحملت المدينة التي أصبحت قلب الإمبراطورية الإسلامية لقب «دار السلام»، ونشط تجارها على الطرق المؤدي إلى الشرق الأقصى. لقد أدرك الخليفة أهمية التبادل التجاري وحماية قوافله فأرسل سفراءه ورسله إلى مهراجات الهند وأباطرة الصين طالبا الارتباط باتفاقيات لتأمين الطرق التجارية من النهب والاعتداءات. وسرعان ما تحولت بغداد إلى مفصل تلتقي عنده تقاطعات طريق الحرير. وكانت صناعة الأنسجة الحريرية فيها قد اشتهرت باسم العتابي، نسبة إلى منطقة العتابية، أُسوة بالحرير الدمشقي الذي ما زال يحمل اسمه حتى اليوم. وبلغ من روعة ما كان ينتجه الحرفيون والنساجون الماهرون في بغداد أن الخليفة هارون الرشيد كان يرسل الهدايا الثمينة منه إلى شارلمان ملك فرنسا، وإلى إمبراطور الصين. ومع حلول القرن التاسع ازداد عدد سكان المدينة وصارت مركزا يقصده العلماء والأطباء والشعراء والجغرافيون والفلاسفة من كل بقاع الدنيا. وسمح المناخ الرحب لبغداد بقيام حركة تبادلية وثقافية واسعة وبؤرة للحوار والتفاهم، مما يعني التسامح والتعايش السلمي.

من سوق الوراقين العريقة في بغداد انتشرت صناعة الورق في المناطق والبلاد المجاورة، مثل سورية ومنها إلى مصر ثم شمال أفريقيا وصولا إلى إسبانيا. وفيما بعد، صارت مكتبة قرطبة، في زمن الحكم الأُموي، تضم 400 ألف مجلد. وعلى غرارها نشأت مكتبات في القاهرة وشيراز. ومن مسلمي الأندلس تعلم الأُوروبيون صناعة الورق. وبموازاة ذلك كان فن الخط العربي قد أخذ طريقه إلى تلك البلاد وأصبح من المعالم الأساسية في العمارة والتزيين.

إن أهم الثمار الأدبية لطريق الحرير هو كتاب «ألف ليلة وليلة» ذو الشهرة العالمية. لقد ترجمت حكاياته التي كانت خليطا من حقائق وأساطير وخيالات، إلى عشرات اللغات وألهمت مخرجي السينما ومؤلفي كتب الأطفال وأفلام الكرتون التي سحرت العقلية الغربية وأثرت في الآداب العالمية. وكثير من قصص الليالي تدور في الأسواق وبين التجار، سواء في بغداد أو دمشق أو مكة أو سمرقند أو القاهرة أو خراسان. وفي قلب «ألف ليلة وليلة» ظهرت رحلات السندباد البحري الذي خاض مغامراته في البلاد الواقعة على طريق الحرير. وقد وجدت رحلات السندباد أصداء لها في الآداب الأُوروبية، وفي رحلات المستكشف ماركو بولو، مثلا، والقديس أبيفانيوس، أسقف القسطنطينية الذي وصف أماكن مستوحاة من وادي الألماس الذي ورد في أسفار السندباد.

وبهذا، فإن دور التجار العرب لم يقتصر على تبادل البضائع والأنسجة والبهارات والبخور والمعادن الثمينة بل لعبوا دور الوسيط والمحاور والناقل الحضاري بين الشرق والغرب، من شنغهاي إلى البندقية. وساهموا في ترجمة كتب العلوم وحفظها، وفي الاكتشافات الطبية والرياضية والفلكية التي استفادت منها البشرية جمعاء. وفي هذا السياق، تلفت الباحثة النظر إلى أن المسافرين عبر طريق الحرير كانوا يتحدثون بـ17 لغة مختلفة. وكان الدين الإسلامي، وكتابه القرآن الكريم، عقيدة انطلقت من جزيرة العرب ووصلت إلى بلاد فارس وآسيا الوسطى حتى تخوم الصين، بعد أن استعار الفاتحون ذلك الطريق الذي كان قد مهده التجار. وقد وصف ماركو بولو أجواء التعايش التي سادت بين المسلمين وبين أبناء الديانات الأُخرى، خير وصف.

اليوم، ما زالت العلاقات الدولية تقوم على التبادل والتلاقح والحوار بين الثقافات والحضارات، وما زالت كل واحدة من المدن المضيئة الواقعة على طريق الحرير تحتفظ بتراثها القائم على التزاوج والتفاهم وتبادل المعارف رغم الاختلافات العرقية واللغوية والدينية. وختمت دلال نجم الدين بحثها بالقول إن هذا هو الدرس الكبير الذي قدمه لنا طريق الحرير، درس حتمية العيش المشترك في سلام وانسجام.