أكرم خان يراقص تجليات جلال الدين الرومي في «الطريق العمودي»

عرضان في بيروت قبل انتقاله إلى رام الله

التواصل الروحي بين المرئي والمحجوب في عمل أكرم خان («الشرق الأوسط»)
TT

قدم أكرم خان، أحد أشهر مصممي الرقص المعاصر في العالم، عمله الأخير «الطريق العمودي» في بيروت، بعد جولة جاب خلالها عواصم عديدة. عرض مستوحى من صوفيات جلال الدين الرومي، جمع خلاله هذا البريطاني البنغالي الأصل روحانيات الشرق والتقنيات الغربية بما يجعل الفرجة فرصة لاكتشاف اختبارات فنية استثنائية.

على موسيقى نيتين ساوهني، التي تخلط بين عصف الريح، وزفير المخلوقات، وقرع الطبل، وطنين الحداثة، قدم ثمانية راقصين متعددو الجنسيات، من مصر، والجزائر، وكوريا، وإسبانيا، وتايوان، واليونان، وسلوفاكيا، تلاوين أدائية تمتزج فيها الحركات الصوفية بتلك المتأتية من رقص الكاثاك التقليدي الهندي، في جو طقسي يعبق بأجواء الترقي والترفع في درجات الصعود، بحثا عن الحقيقة المطلقة.

غلالة شفافة تغطي خلفية المسرح وتقسم المساحة إلى جهة مخفية وأخرى أمامية جلية وبينة. من وراء الستارة يبزغ الضوء، تتحرك كائنات غامضة وشفافة لا شكل نهائيا خالصا لها، وفي الجهة الأمامية، حيث المساحة المكشوفة، عالم آخر أكثر وضوحا وجلاء، لكن كائناته تتألم، تتلوى، وهي تبحث عن ذواتها.

الراقص المصري البارع صلاح البروجي بملابسه المختلفة قليلا عن بقية المؤدين، يبدو كالمعلم بين مريدين، تتصارع الأجساد مع ذاتها في لحظات توق عامرة، تحت أضواء وزعت بعناية، في عمل ترتكز غالبية مشاهده على لعبة الإشراق والاستشراف. شيء من الرتابة الخارجة من روح الصوفية القائمة على التكرار والإعادة، تجعل بعض المشاهد مع موسيقاها الصاخبة ملولة، لكن أكرم خان بمفاجآته سرعان ما يبدد هذا الشعور.. فعندما تنتفض أبدان الراقصين لتزيح عنها الغبار ترتفع سحابة في فضاء المسرح تغلف المشهد كله، وتضفي شفافية وغموضا إضافيين. الرقص الانفرادي المبني على قوة جبارة في المرونة الجسدية، أو الصراع الثنائي بين شخصين، الطالع من فكرة الخير والشر، يؤدى بأسلوب ابتكاري ساحر. الزحف الجماعي باتجاه واحد، خمود الأنفاس، ثم استعادة الروح بانتفاضات وزفرات وتنهدات، الفتلة المولوية، كلها مشاهد أضفى عليها خان لمساته الروحانية الخاصة، مما يجعل المتفرج يتساءل إن كان أمام اقتباسات إسلامية، أم يهودية أم تراها بوذية. أحد المشاهد البديعة، هي تلك التي تأتي بعد رعدة قوية، ليتلوها لمع وبرق، وضوء تتبعه عتمة مع ارتجاجات، توحي بالفعل أننا أمام عاصفة رعدية تعبر فوق رؤوس الراقصين. مزيج من ديانات ومفاهيم تصب كلها، في نبع المعرفة الإنسانية، وتجسيد فكرة الحلول التي يبدو أن خان من عشاقها.. فهو متيم بقدرة النبات على الخروج من الجماد، ومن ثم تحول النبات إلى حيوان ومنه إلى إنسان، يمكنه أن يتزود بجناحين ليطير إلى الأعلى.

أكرم خان الذي استضيف بعد عرضه في «مسرح المدينة» مع الراقصين المصري والجزائري، وحاورهم الزميل بيار أبي صعب، قال إنه في بريطانيا حيث نشأ يشعر بأنه يفتقد البعد الروحاني الشرقي الذي تمتعت به أسرته البنغالية، وإنه يعرف جلال الدين الرومي من أمه التي تعشق كتاباته وأفكاره ونقلت هذه اللوثة إليه.

وعزا خان العديد من الأفكار التي رآها المتفرج في العرض ليس فقط إلى قدراته الخاصة، وإنما لتضافر جهود فريق عمل كبير، يحاول كله أن يبتكر ويجتهد لتأتي النتائج على المستوى الأفضل.

حوار شائق دار بين الجمهور اللبناني وهذا الراقص الذي لم يشارك في أداء العمل، ولم يره الجمهور اللبناني يرقص، وعندما طلب منه الزميل أبي صعب أن يفعل، اعتذر لعدم استعداده لذلك، ولأن المسرح كان ممتلئا بالبودرة أو الغبار الذي نفضه راقصوه عن أجسادهم أثناء أدائهم «الطريق العمودي».

وربما كان الجانب الأكثر إثارة في هذا الحوار، هو ما قاله الراقص المصري صلاح البروجي، بعد أن بدا خلال أدائه متميزا وخلاقا، له سطوة رائعة على جسده المتمرس. وصلاح الذي التقاه ذات يوم أكرم خان مصادفة في بيروت مع الراقص الجزائري الآخر في فرقة «أحمد خميس»، لا يخفي حين يتحدث ميوله الصوفية، لنكتشف أن ما رأيناه من أداء هو ليس عملا فنيا وحسب، وإنما هو امتداد لفكر هذا الفنان وتوجهاته الشخصية.

فقد قال خان صراحة «إن الجسد الغربي المتخم بالحياة المادية مختلف عن ذاك الشرقي الذي تربى على قيم روحانية، وأن لكل جسد ثقافته التي نشأ عليها. وهو بسبب ميوله الخاصة، يحتاج إلى هذه الأجساد الباحثة عن نورانية مبتغاة، وهو ما أعجبه في صلاح الذي أسند إليه دور المعلم».

من الصعب أن يقول لك خان ما الذي يقصده ببعض الحركات أو التجسيدات التي يقدمها في عمله، ويحاول أن يجيب بشيء من الغموض الذي يترك لكل متفرج متسعا للاجتهاد والتفكير، ويتيح لنوافذ التأويل أن تبقى مفتوحة على مصراعيها. أما صلاح الذي فهمنا أنه يتمتع بحرية كبيرة خلال العرض ليعبر عما يختلج في روحه، فقال إنه لا يدعي التصوف لكنه بالفعل في حالة بحث دائم عن هذا النور الساطع الذي يريد أن يقترب منه، وإنه أثناء أدائه دوره لا يفعل سوى إبراز هذه الميول وترجمتها بشكل فني على المسرح.

أعمدة الحكمة السبعة التي رأيناها مجسدة وممثلة في «الطريق العمودي» يسعد بها الراقصون، يغمرونها، يقبلونها، ويراقصونها، نجد صداها في عدد الراقصين السبعة الذين يدورون حول المعلم أو يصغون إلى تحركاته.

لعل واحدة من أجمل اللقطات على الإطلاق هي تلك التي يراها المتفرج في نهاية العمل، حيث يقف المعلم أمام الغلالة الشفافة التي أنيرت بضوء قوي ليتلمس أكفا تطلع إليه منها، ويحاول التقاطها، ثم نرى ظلا يراقص المعلم، أو يحاول أن يتماهى معه، ويذهب الظل ليطل آخر، وهكذا تتوالى ظلال الأرواح واحدا بعد الآخر وتختفي لينبلج ضوء هائج تسقط بعده الغلالة ويغط المسرح في صمت وظلام عميقين.

قدم هذا العمل الممتع في إطار «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» وضمن مشروع لـ«المجلس الثقافي البريطاني» يحمل عنوان «أعمال جديدة وجماهير جديدة» يتيح للناس في المنطقة العربية وفي بريطانيا الفرصة لاكتشاف قوة الفنون كوسيلة لتطوير الفهم الثقافي والحوار. جدير بالذكر أن هذا العرض الذي قدم في بيروت يومي 26 و27 من الشهر الحالي، يشاهده الجمهور الفلسطيني في رام الله يوم 5 مايو (أيار) المقبل، وكان يفترض أن يحط رحاله في دمشق، لكن الموعد ألغي بسبب الظروف الأليمة التي تمر بها سورية.