سوق الأحد في سراييفو.. ملتقى مختلف الفئات والقدرات الشرائية

صالح بيراموفيتش لـ «الشرق الأوسط» : أبيع الكباب في الأسواق.. ولحم الخرفان المشوية عند المساجد

من الأمور الغريبة في سوق سراييفو، هو التخصص الدقيق لدى بعض التجار الصغار جدا («الشرق الأوسط»)
TT

في سوق الأحد التي تقام أسبوعيا على مشارف سراييفو، يعثر المرء على كل شيء تقريبا، وبالأسعار التي تناسب مختلف الطبقات الاجتماعية. سواء تعلق ذلك بالملابس والمنسوجات، أو الفرش والأغطية، من سجاد وألحفة وبطاطين، أو أثاث المنازل، ولوازم المطابخ المصنعة من مختلف المواد، البلاستيك، والألمنيوم، والنحاس.. وغير ذلك، بالإضافة إلى جميع موديلات السيارات وأنواعها وأسعارها المتفاوتة.

«الشرق الأوسط» زارت سوق الأحد في سراييفو عدة مرات، لكن هذه المرة كان الوضع مختلفا نسبيا، أي بعد صلاة الفجر مباشرة، لتلافي الازدحام، حيث يشهد الطريق المؤدي إلى رايلوفاتس، عبر منطقة ستووب، حيث تقع السوق، اختناقا شديدا في سائر الأيام، أما يوم الأحد فتتحول، رغم اتساعها، إلى «زنقة» حقيقية. كان الطريق شبه خال، ومواقف السيارات كما لو أنها أفرغت من السيارات، فالوقت ما زال مبكرا على الزبائن، ولم يكن في السوق سوى الباعة، عندها تذكرت مثلا يقال عندنا «ما يبكر للسوق سوى التجار».

على اليمين كان باعة الملابس الرخيصة يكملون استعداداتهم بتعليق الملابس على جدران خشبية وحبال مشدودة إلى قوائم غير ثابتة، وليس بعيدا عنهم صفف تجار الخضراوات بضائعهم في صناديق يعلو بعضها بعضا، وقد أسندت إلى سدة خشبية قابلة للتفكيك، أو داخل شاحنات ضخمة، حيث ينقلونها ويجوبون بها الأسواق، حسب مواعيدها المختلفة خلال الأسبوع. وعن يسار الطريق المؤدي إلى ساحة بيع السيارات، حط باعة الأثاث المنزلي ما لديهم من أرائك وطاولات وتحف وغيرها من البضائع في انتظار الزبائن. وقال أحد باعة الأثاث المنزلي، ويدعى أسعد (40 عاما)، لـ«الشرق الأوسط»: «أعمل في صناعة الأثاث المنزلي منذ 12 عاما، ومن هذا العمل أنفق على أسرتي، فأنا متزوج ولدي ولدان»، وتابع: «لدي كما ترون ما يحتاجه المنزل من طاولات للضيافة، والاستخدام اليومي، وغرابيل (جمع غربال)، وحاويات خشبية للملابس، وهراوات السواطير، والأدوات الزراعية»، ثم سأل «الشرق الأوسط»: «هل يوجد من يهتم بهذه التحف، وهذا الأثاث عندكم؟»، وأردف: «لدي عنوان وهاتف، ويمكنني تحضير أي قدر من المصنوعات لو طلبها تجار أو مستهلكون في البلاد العربية». وبجانب أسعد وشريكه درويش هوجيتش، يتموقع تجار الأدوات البلاستيكية من كراسي وأوان ولعب أطفال، بينما يحتل الجهة المقابلة عن يسار المسرب داخل السوق تجار السجاد المحلي والمستورد من تركيا. وقال تاجر سجاد يدعى سيفو طهيري: «كل ما تراه لي، العمل جيد والمكسب ممتاز والحمد لله»، وتابع في أريحية قل أن يعثر عليها المرء في السوق: «أتنقل من سوق إلى سوق، مرة في سراييفو، وهو يوم الأحد، ويوم السبت أكون في موستار (120 كيلومترا جنوب سراييفو)، ويوم الجمعة في ليفنو (أقصى الجنوب البوسني)، ويوم الخميس في بوغوينو (140 كيلومترا شمال غربي سراييفو).. وفي سائر الأيام أتموقع في إليجا (إحدى ضواحي سراييفو على مسافة 15 كيلومترا من وسط المدينة)».

أسعار السجاد مغرية، ولذلك كان سيفو يهمس لبعض الزبائن الذين بدأوا يتوافدون شيئا فشيئا على السوق «نبيع مجانا». سألناه عن أسعار السجاد من فئة 3 أمتار في مترين فأجاب: «السعر 45 يورو». وعن أسباب اختياره لتجارة السجاد أفاد بأنه كان يعمل في ألمانيا لعدة سنوات، وعندما عاد فكر في أن يتخذ تجارة السجاد مهنة له لينفق من خلالها على أسرته المكونة من زوجته وأبنائه الـ4، وقال: «كنت في ألمانيا منذ 1990 وحتى 1999 وجمعت نحو 15 ألف يورو بدأت بها العمل في هذا الميدان التجاري، وقد وفقت في هذا الاختيار».

من الأمور الغريبة في سوق الأحد بسراييفو «التخصص» الدقيق لدى بعض التجار الصغار جدا، فبعضهم لا يبيع سوى الجوارب على سبيل المثال، أو الخس، أو الملابس الداخلية، أو رابطات العنق، أو مناديل الأنف، ولا يبيع أي شيء آخر. دادو، أحد الذين يبيعون الجوارب فقط، أجاب في رده على سؤالنا بهذا الخصوص بأنه مندوب لتاجر، «أحد التجار سلمني هذه البضاعة وطلب مني بيعها في السوق، هذه ليست لي، ولكن آخذ نسبة من الأرباح»، هذه النسبة من المبيعات فقط، «أحيانا أحصل على 2.5 يورو وأحيانا على 5 يوروات، وإذا لم أبع شيئا لا أحصل على أي شيء». وإذا كان التخصص سمة العربات والمواقع التي يضع فيها التجار بضائعهم، فإن السوق في مجملها متنوعة، وقد جمعت كل تلك الحرف، وتلك البضائع في مكان واحد يمتد نحو 10 كيلومترات مربعة. وقد اتسع هذا المكان، بل كان جالبا، وبشكل لافت لباعة الكباب، الذين أحضروا معداتهم وكبابهم إلى السوق، وشرعوا في الشواء الذي غطت رائحته أكناف السوق وساحتها العريضة على اتساعها. وقال أحد باعة الكباب، ويدعى صالح بيراموفيتش (56 سنة): «أعمل في هذا الميدان منذ 32 سنة، وليس لي مكان محدد، فأنا أعمل في الأسواق الأسبوعية، وعند افتتاح المساجد، وفي المهرجانات الشعبية (تسمى في البوسنة تفاريتش) أو (تفاريح)»، وتابع: «عند افتتاح المساجد يحضر ما بين 20 و30 ألف نسمة، وأحيانا أكثر، فهذا يتوقف على المسجد، وما إذا كان جديدا أو تاريخيا، هدم أثناء العدوان على البوسنة من قبل التشتنيك، الصرب، أو الأستاشا، الكروات (حلفاء النازية في الحرب العالمية الثانية)»، واستدرك قائلا: «عند افتتاح المساجد لا أقدم الكباب، وإنما أقوم بشي الخرفان وبيعها للزبائن بحسب حاجة كل واحد منهم، وأحيانا يأتون مع أسرهم فيشترون لحما مشويا لكافة أفراد العائلة». وحول ما إذا كان يقوم بنفسه بإعداد الكباب في البيت، نفى صالح بيراموفيتش ذلك قائلا: «أود أن أفعل ذلك، لكن لا أملك مكانا ولا مالا لشراء آلة فرم اللحم وخلطه مع البهارات والتوابل الخاصة، ولا ثمن الثلاجة التي يجب أن أضع فيها اللحم قبل وبعد فرمه».

كان صالح بيراموفيتش بشوشا وهو يحدثنا، وبنفس الروح ودعناه لنغرق مجددا في السوق، وفي كل خطوة يصادفنا الجديد، حقائب نسائية، وإطارات للسيارات جديدة وبأسعار زهيدة جدا، فالزوج من الإطارات لا يزيد سعره على 30 يورو، بينما في المحلات لا يقل عن 120 يورو. إلى جانب قطع السيارات وما تحتاجه من إكسسوارات. وكان ذلك إيذانا بالدخول إلى سوق بيع السيارات المستعملة؛ سيارة من نوع «أودي» الألمانية موديل 2005 بـ10 آلاف يورو، و«غولف» موديل 2003 بـ6 آلاف يورو، و«بيجو» موديل 2000 بـ2900 يورو، و«مرسيدس» موديل 2008 بـ19 ألف يورو، و«فيات» موديل 2007 بـ5150 يورو. ومن أسباب بيع السيارة، حسب ما ذكر بعض من تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، هو الرغبة في الحصول على موديل قديم نسبيا لإنفاق الفارق على الحياة اليومية في ظل الأزمة التي يعيشونها، وهناك من يريد بيع سيارته ليبني منزلا، أو يسهم بالمبلغ في بنائه، وهناك من يريد بيع سيارته فرنسية الصنع لشراء سيارة مصنوعة في ألمانيا، فـ«السيارات الألمانية أفضل بدليل الخبرة، حيث هناك فرق بين سيارة ألمانية عمرها 15 سنة على سبيل المثال، و(نظيرتها) الفرنسية أو الإيطالية (فيات)، فضلا عن غيرها من السيارات».. كان يوما جميلا في سراييفو، وأيام سراييفو كلها جميلة.. أردنا نقل بعض تفاصيله إلى قرائنا الكرام.