الواقعية المفرطة لباتريسيا بيتشينيني في معرض «كان يا مكان»

يستضيفه غاليري جنوب أستراليا

تستخدم باتريسيا بيتشينيني الجماليات المشوهة للفن المعاصر كوسيلة للإجابة على قضايا أخلاقية كبرى تعيشها البشرية (أ.ب)
TT

طرحت قضية الاستنساخ، وما زالت تطرح، الكثير من الأسئلة ذات البعد الأخلاقي الصرف. البعض من الناس، خصوصا العلماء الذين يسكنون مختبراتهم، أيدوا الاستمرار في عملية النسخ الجيني للمخلوقات التي نعرف منها النعجة دوللي التي ماتت بعد عدة سنوات على استنساخها، دون حتى أن يتم الشرح التفصيلي لأسباب الموت. قال البعض إن الوفاة كانت عادية وطبيعية، عادة ما تكون الوفاة كذلك، إذا أبعدنا حوادث القتل أو الحوادث الأخرى، دوللي ما كان لها أن تموت بحادث، ولدت في مختبر وماتت فيه، هي على الأرجح لم تغادره طوال الحياة التي عاشتها. حادثة كهذه كان يفترض أن يتم شرحها. كان يفترض أيضا أن تبرر، حتى وإن كنا نتحدث عن وفاة حيوان ولد في ظروف غامضة ومات بمثلها، لم تجب حتى الفلسفة المعاصرة عن سؤال كهذا له حد السيف، البعض برر عدم اتخاذه لموقف حاسم من هذه القضية، كونها، في جانب مهم منها، لا تعترض على أسئلة الخلق نفسها، كانت تجربة ودفنت وانتهى الموضوع. غير أن التجربة ما كان لها أن تتم دون أن تطرح عشرات الأسئلة. تجربة كهذه، وإن كان البعض قد اعترض عليها، لكنهم في الحال هذه لم يتابعوها عن كثب ولا طرحوا أسئلتهم بعدها. هكذا انتهت التجربة، لكنها رغم ذلك أحدثت فجوة هائلة في مشوار الحضارة نفسها.

في المشهد الثقافي وضعت باتريسيا بيتشينيني تجربة أولى، ما كان لهذه الفنانة المولودة في عام 1965 في سيراليون أن تتميز لو أنها اكتفت كغيرها بالإجابة على الأسئلة، أهم ما في أعمالها يكمن في طرحها للأسئلة.

تعلمنا هذه الفنانة كيفية طرح السؤال، حين نشاهد أعمالها لا نطرح الأسئلة من قبيل: كيف فعلت ذلك؟ هذا ليس هو المسار الذي تريدنا أن نسلكه، بل وفي تحوير لقاعدة السؤال. نقول ببديهية: لماذا فعلت ذلك؟ لماذا وبإصرار غريب تضعنا أمام المرآة، لا لنرى فقط أنفسنا، بل لنتخيل كيف نبدو دون أن نرى ذواتنا. وبعيدا من التقنيات والمواد التي تستخدمها، لا نجد في أعمالها أية إجابات جاهزة، هي فقط تعتمد تعليمنا طرح السؤال والبحث عن إجاباته حولنا، في المدار الذي نميز أنفسنا داخله، باعتبارنا بشرا مهمتهم طرح الأسئلة لا الإجابة عنها.

دون تبجح فلسفي، قد يصنف البعض أعمال بيتشينيني كمرآة عاكسة للكوابيس، غير أن هذا التصنيف وإن كان يحمل بعض الإنصاف، فإنه لا يحمل الحقيقة كلها، ذلك أن السؤال إن طرح فعليه أن يكون على الشكل الذي يجعل من تناول هذه الأعمال في سياقها الصحيح، فالشكل الذي تقدمه بيتشينيني لأعمالها يجعل من الاستهجان عملية ذات جدوى على المدى المنظور، فكيف يمكن لفنانة أن تستخدم الجماليات المشوهة للفن المعاصر كوسيلة للإجابة على قضايا أخلاقية كبرى تعيشها البشرية؟ فإذا ما طرحنا الموضوع على هذا النحو وقسمنا نتيجته على عوامل التطور المساقة في العصر الحالي نصل إلى النتيجة التي تنفي التدخل العلمي في صناعة الكائن الذي يتراوح بين الإنسان والحشرات المجهرية. هي إذن أعمال تنطلق من دحض الكسل والانطلاق لتطوير الموقف الأخلاقي على أهم عوامل التغيير في العالم، أي التكنولوجيا. هي تعمل بين الفكرة والفن دون أن تتمسك بثقل وطغيان مفهوم ممارسة الفن باعتباره رسالة. تجنبها لهذا المفهوم يجعل من الأعمال تتحرك بخفة فراشة بين الغرف والقاعات الواسعة المعروضة بها، غير أنها لا تقف هنا فقط، بل تحيلنا من خلال هذه الأعمال التي تتعدد موادها بين التصوير الفوتوغرافي والفايبر غلاس وكذلك السليكون، وصولا إلى التخطيط بقلم الرصاص والحبر الأسود، حتى طريقة العمل في المختبر، تحيلنا إلى متابعة دقيقة لعملية الصناعة وربطها بالعلم، حيث تمكننا هذه الطريقة من كشف فهم الفنان لها وتأتيه لثني الخطابات المتباينة في ما بينها، كما أنها تجبرنا على كيفية فهم بناء هذا التناسق في معرفتنا للظواهر المعاصرة.

ثمة جانب آخر في أعمال بيتشينيني، يمكن لمسه بوضوح في مسعاها لفرض هذا الموقف الأخلاقي، وهو في جانب منه يجيب على الطريقة، التي تم التعاطي بها من قبل العلم نفسه في قضية كقضية النعجة دوللي، إذ لا تخلو أعمالها، خصوصا، التي تنحو باتجاه نقد التدخل البشري في الخلق، من عاطفة مشوبة مصدرها دائما الطفولة، ومركزها على الدوام الأمومة. هكذا نجد في منحوتتها الشهيرة «الأم الكبيرة» ميلانا يركز على العاطفة باعتبارها مرتكزا لفهم العالم، لكنها أيضا مرتكز لعملية الخلق المعقدة. في هذه المنحوتة نجد جسد امرأة مشوها، لكنها مع ذلك تحمل طفلا وترضعه، هذا من نتاج الخلق، لا العلم يمكنه أن يصنع ذلك ولا حتى التكنولوجيا. تحيلنا بيتشينيني إلى هذا المفهوم الأخلاقي الذي عليه أن يتجسد في كل القيم البشرية.

لا يمكننا الكلام عن المعرض الشامل لأعمال بيتشينيني الذي يتم في غاليري جنوب أستراليا، دون الحديث عن المواد التي تستعملها، فهي لم تصل إلى هذا المستوى، رغم صغرها، إلا بعد الغوص التام في بحوث استمرت لعدة سنوات. الفن المعاصر في ظاهره العالمي اليوم المتمثل بالفيديو آرت أو حتى بالأعمال التي تنزع نحو الهندسة الداخلية باتت أعماله تقليدية في عمومها، وفي ما ندر نتسقط أعمالا غاية في التركيب لكنها مع ذلك لا تحيد عن استعمال المواد الأولية نفسها التي يعتمدها الجميع، لكننا مع بيتشينيني نكتشف فوائد أخرى لمواد لا يمكن التكهن بمدى مصداقيتها إذا ما تحولت إلى عمل فني.

والحق أن السليكون الذي تستعمله بيتشينيني يبدو مادة غير مألوفة في الفن المعاصر إلا حين يستخدم للإجابة على المنطق الأخلاقي الذي تريد هي أن توصلنا إليه. هكذا هي المادة التي بات استخدامها في الجراحات التجميلية يتجه نحو مزيد من الاستهلاك، لكنه يبقى مع ذلك عنصرا بلا روح، كأن بيتشينيني تريد أن تقول إن السليكون حين يطور يتماهى مع ألوان وأجساد البشر، لكنه مع ذلك يبقى بلا روح، تلك الروح التي لا يمكن لأحد أن يصنعها على هذا الكوكب.