مهرجان كان السينمائي الدولي (5) - السينما العربية.. سعيا لوجود ما

بين الغياب والحضور الهامشي

جوليا لي (يمين)
TT

ربما لم يعد أحد يكترث سوى تلك الحفنة من النقاد، بل ليس كل النقاد، بل تلك المجموعة التي تعلم أن السينما العربية كان يمكن لها أن تنجز وتحقق وتصل، لكنها آثرت أن تبقى أسيرة عجزها شبه الدائم عن الخروج من القوقعة.

ليست المسألة في حضور أو غياب السينما العربية عن المسابقة على النحو النظري مطلقا، فكما هي غائبة، كذلك السينما اللاتينية والسينما الأفريقية وأفلام نرويجية وإسبانية ومجرية ونيوزيلندية وهندية، إلى آخر تلك الدول، صغيرة وكبيرة، التي أرسلت أفلاما لم تحظ باهتمام لجنة الاختيار.

لكن المسألة هي أن السينما العربية (لا بالجمع ولا بالمفرق) حاضرة في العالم العربي أساسا. طبعا، هناك إنتاجات في مصر وتونس والمغرب ولبنان وسوريا والإمارات والأردن، لكن بالنظر إلى عامل عدد سكان الدول العربية من ناحية، وإلى عامل المقارنة مع نشاط الدول الأخرى من ناحية أخرى، فإن ما تنتجه هذه الدول المختلفة فقاقيع صابون.

والأمر صابون جيد الرغوة فعلا، ذلك أن الكمية ليست المشكلة الوحيدة، بل المشكلة الأكبر هي أن معظمها لا يصلح للمهرجانات، وإن صلح فلمهرجانات محلية أو صغيرة أو متخصصة، وليس لبرلين وكان وفينيسيا وسواها.

فهل تفتقت الذهنية الإبداعية للمخرجين العرب عن الاكتفاء بإنجاز أفلام مكبلة لا تستطيع مبارحة أرضها؟ حتى لا نظلم المخرجين (على الرغم من ضلوعهم في التقصير) فإن المسألة منتشرة في كل قطاعات العمل السينمائي، بدءا بأولئك المنتجين الذين لم تعد لديهم أي طموحات. تقابلهم في «كان» فتجدهم يتحدثون عن فيلم صغير هنا وفيلم صغير هناك. تلتقي مخرجين، فتجدهم يبحثون عن مائة ألف دولار دعما من هذه الوكالة أو ذلك المهرجان وما وازاه من مؤسسة أو مصدر شبيه آخر.

الحالة لا يمكن قلبها بالتمنيات، بل بإعادة تشكيل خطة شاملة إنتاجية وفنية، هذا قبل فوات الأوان، فالمخشي عليه هو عقل المبدعين أولا، وقد تحول كليا إلى صندوق مقفل لا يحلم ولا يطمح، بل يصرخ نادبا حظه ومنتقدا المهرجانات العالمية بدعوى أنها ترفض عرض أفلامه.

المخرجة جوليا لي: البطل الغائب في فيلمي هو المجتمع على الرغم من أن فيلمها الأول «جمال نائم» حمل في طياته رسالة ذكية حول وضع بطلته الشابة والقرارات الخاطئة التي تضطر إليها في محاولة لإنقاذ نفسها من براثن الفقر والحاجة إلى الغير، فإن غالبية النقاد هنا كانوا حذرين من التجاوب كليا مع فيلم وجدوه باردا حيال العالم الذي يعرضه. وكما جاء في استعراضنا للفيلم، أمس، فإن المشكلة الرئيسية هي أن المخرجة بحذفها المبررات واعتمادها الفعل وحده مجردا من الدوافع، سحبت من الفيلم إمكانية التجاوب مع وضع البطلة.. فالعلم بالشيء شيء والتجاوب معه (أو حتى ضده) شيء آخر.

جوليا لي، مخرجة هذا الفيلم، كاتبة روائية أسترالية، وهي تقول إن بطلتها تتحدث إلى العالم حين تقبل أن تنام وتترك العالم ينهش جسدها كما يحلو له. «في ذلك رسالة»، تقول: «وهذه الرسالة أن أمثالها من الضحايا فقدوا تصديق أن حياتها الحاضرة مهمة في نظر الآخرين».

* أنت روائية في الأصل.. كيف قررت التعامل مع مفردات الصورة ومعالجة الفكرة سينمائيا؟

- كوني روائية مكنني من فهم الشخصيات التي أكتب عنها فهما كبيرا هيأ لي نقلها على نحو صحيح، كما أفترض، إلى الشاشة. والعلاقة بين القصة المكتوبة والقصة المصورة وثيقة على أي حال ليس عندي فقط، بل على نحو عام. فكلتاهما قائمة على بناء شخصيات عليها أن تثير الاهتمام وتنضوي على طبقات وشرائح نفسية وعاطفية متشابكة. شخصيات هي من صنع المجتمع وتعيش تحت ثقله وتبعا لما تواجهه فيه. هذا لا علاقة له إذا كان المصدر الأول أدبيا أو أن السيناريو كتب خصيصا للسينما.

* ماذا عن التحضير لعملية الإبداع ذاتها؟ هل تختلف بين التأليف بنية وضع كتاب روائي والإخراج بنية تحقيق فيلم؟

- المراحل التي يمر بها صاحب العمل لا تختلف كثيرا في البداية.. أعني أنك عندما تجلس لتكتب نصا سينمائيا عن رواية ستقوم بالعملية نفسها التي تتطلبها الكتابة للسينما بصورة مباشرة. كلاهما عمل يتطلب الكثير من حل المسائل التعبيرية والإبداعية وآلاف القرارات المتعلقة بالحدث وبالمكان وبالزمان وبالشخصيات، حتى لو كانت شخصيات ثانوية جدا. ما يتبع ذلك مختلف طبعا. الفيلم السينمائي يحمل كل ما سبق إلى نطاق تنفيذي مختلف تماما.

* لوسي، بطلة الفيلم، في عُرف كثيرين، قد تستحق ما يحدث لها؛ فهي لا تعكس ملكيتها لقرارات صائبة.. هل تعتبرين أن ذلك سبب يدفع البعض منا إلى عدم التجاوب مع ما يقع لها؟

- لا أعتقد. المسألة أكبر شأنا منها وحدها. كيف تأخذ القرار الصائب إذا كانت ملوية الذراع من البداية، تواجه جدارا مانعا يحد من الحياة بمأمن عن اتخاذ القرار الخطأ؟ البطل الغائب في فيلمي هو المجتمع. إلى حد بعيد هو الشر المحيط بلوسي وبالكثير من أبناء الجيل الجديد الذي ربما يكون معذورا إذا فشل في الوصول إلى القرار الصحيح بشأن حياته.

* كمخرجة أولى، كيف واجهت عملية التعبير عن نفسك بالكاميرا؟ كيف ألفت أسلوبك البصري؟

- مثل أي فيلم يعتمد على الشخصيات ويريد أن يسبر حقيقة ما يحدث لها، فإن «جمال نائم» استلهم أسلوبه من الرغبة في متابعة الشخصية في صورة أمامية والأحداث في صورة خلفية. هذا ما جعلني أركز مشاهدي على الشخصيات. بعض النقاد سألني: لماذا لا تتحرك الكاميرا في هذا الفيلم؟ لكن الحقيقة أنها تتحرك فعلا. ربما لا يلحظها الجميع؛ لأن حركتها بطيئة ومحسوبة وليست سريعة. هذا الأسلوب، كما أجبت، يسمح للمشاهد أن يغوص أكثر فيما يراه عوضا عن أن يعتبر الفيلم حكاية تبدأ وتنتهي تبعا لمنهج حدثي فقط.

* ما سبب اختيارك للممثلة إميلي براونينغ؟

- سؤال مهم وبسيط معا؛ لأنها أفضل من وجدت قدرة على التعبير عن الشخصية التي في بالي، وآمل أن توافقني على ذلك. لقد كنت أبحث عن الفتاة الشفافة التي تتمتع بجمال نادر كما بموهبة أداء مقنعة. لقد وجدتها قادرة على أن تحمل عبء الفيلم؛ فهي في كل مشهد منه تقريبا. أنا سعيدة لأن وجودها في هذا الفيلم منحها الفرصة لكي توجد في مهرجان «كان» أيضا.

أفلام اليوم

* هل مهرجان «كان» جاد في دعمه معارضي النظام في إيران؟

يدعي مهرجان «كان»، فيما يدعيه، أنه يؤيد حرية التعبير ويناوئ - بذلك - ما يحدث في إيران من كتم لتلك الحرية واضطهاد للمثقفين والمبدعين والسينمائيين، وهذا كله عين الصواب بلا ريب. لكن المرء لا بد أن يتساءل وهو يشاهد الفيلم الإيراني «وداع»: أين يذهب هذا الكلام كله حينما يصل الأمر إلى الفعل؟

فعوضا عن أن يتم اختيار فيلم محمد رسولوف في إطار المسابقة، نراه اكتفى بالوصول إلى تظاهرة «نظرة خاصة» ليس لقصور فيه وليس تطوعا، بل لأن إدارة «كان» ارتأت ذلك. هذا مع العلم أنه - حتى الآن - أفضل فيلم شوهد على شاشة المهرجان الفرنسي العريق.

إنه دراما عن وضع امرأة حبيسة على أكثر من نحو: حبيسة نظام متعسف، ووضع شخصي ناتج عن ذلك الوضع السابق، ثم حبيسة طموحاتها المشروعة. إنها محامية اسمها نورا (تقوم ببطولتها ليلى زاره) تم سحب رخصتها منها وزوجها صحافي هارب من ملاحقة البوليس إلى حيث يعيش ويعمل ضد النظام من مكان تحت الأرض غير معروف. في بطنها جنين يعتقد الأطباء أنه سوف يولد معاقا، لكن حتى من قبل معرفتها بذلك تحاول طرحه بسبب غياب زوجها ورغبتها في السفر والهجرة.

ما تدركه نورا جيدا هو أنها وحيدة في مجابهتها لما يتربص بها، وهو على جبهات متعددة: هناك الحكومة، والمخابرات، والنظام، كلها في أعلى القائمة، والقوانين المرعية والتعقيدات الإدارية والنظم الناتجة عن تقويض أي حلم بالتغيير إذا استطاعت.

التغيير الذي تنشده نورا بدهي: إنها تريد الخروج من وطن تجد فيه نفسها معزولة تماما. وهناك أكثر من وصف لهذه العزلة، من أكثرها جمالا ورمزا تلك اللقطة لها وهي جالسة وحدها عند شاطئ البحر تنظر إلى بحر متجهم وسماء داكنة تنذر بالمطر. لكن المرء يستطيع أن يرقب من مطلع الفيلم حالة شخصية لا خلاف في إنسانية ما تطرحه. بروية وتمعن وببناء سينمائي يتجاوز فذلكات محمد مخملباف وعباس كياروستامي التي لا تخدم إلا كليهما، يقدم محمد رسولوف على متابعة ذلك السعي العنيد والهادئ في الوقت ذاته. رجال النظام يدقون باب شقتها لسحب جهاز ستالايت من منزلها، مما يجعلها أكثر عزلة مما هي عليه أساسا. والمخابرات تدخل حياتها حين تفتش المنزل بحثا عن أوراق تخص زوجها. معاناة نورا أساسية في تأليف فيلم (كتبه وأنتجه وأخرجه رسولوف) ينادي بالحرية الشخصية وعلى درجة مزدوجة من الأهمية بسبب كونها امرأة تتطلع للانعتاق من وضع لا أمل فيه.

في مشاهده الكثيرة لبطلته وهي تدخل مكاتب مختلفة بحثا عن سبل الحصول على فيزا أو جواز سفر أو حل لوضع صحي متأزم، سيلحظ المشاهد أن السكرتيرات عليهن دائما مغادرة مكاتبهن ودخول مكاتب مديريهن للخروج بجواب أو بإذن ما يرمز لهرم في صنع القرار وهيمنته على القاعدة التي دونه. في ترميز آخر، نجد نورا ترعى سلحفاة صغيرة في حوض. في أحد الأيام تنقلها إلى صينية كبيرة تغرقها بالماء. من لحظة إدراك السلحفاة أنها خرجت من ذلك الحوض، تسعى لاستكمال حريتها بالخروج من محيطها الجديد، ولو أن قوائمها تنزلق من على الجوانب البلاستيكية. في النهاية، وعلى صورة حقيبة مفتوحة نقب فيها رجال المخابرات ما شاءوا، وصوت طائرة عابر ينتهي الفيلم وقد قيدت نورا للتحقيق.

أجمل ما في الفيلم هو التشكيل داخل الصورة. تخال نفسك أمام رسام يؤلف الحياة ضمن الكادر ويؤلفها بجمالية رائعة كلما استدعى الأمر.

إذ تم عرض هذا الفيلم خارج المسابقة، كما ذكرنا، سنجد أن الفيلم الإسرائيلي «ملاحظة» لجوزيف سيدار موجود في المسابقة على الرغم من أنه، بإعجاب معظم مشاهديه من النقاد، لا يحمل أي سبب فعلي يدعو لجنة الاختيار لتقديمه داخلها. ألم يكن من الممكن إثارة التنافس على نحو أفضل لو أن كلا الفيلمين، الإيراني والإسرائيلي، كانا جنبا إلى جنب في المسابقة، بصرف النظر عن النتيجة؟

سيدار كان قد كتب وأخرج فيلم «بيوفور» عن القلعة الواقعة في الجانب اللبناني من الحدود مع إسرائيل. جهد جيد وإن لم يحقق كامل أهدافه. هذا الجهد نفسه مبذول هنا، لكن نسبة المحقق من الأهداف هي أقل مما ورد في ذلك الفيلم السابق له.

إنه عن صراع بين أب وابنه. أحدهما حصل على جائزة الأكاديمية الإسرائيلية بالخطأ. لقد ارتكبت الوزارة، يشرح لنا الفيلم، خطأ حين اعتقدت أنها تمنح الابن الجائزة لكنها وضعت اسم الأب عليها. الغيرة بينهما. عدم الثقة. الصراع العاطفي، كل في عالمه، وسعي أحدهما لكسب ود الآخر من دون نجاح، هو جل ما يمضي الفيلم ساعتيه في الحديث فيه.

تدرك أن المخرج لا يتمتع بصدق الموهبة حين تلحظ أنه مستعد لوضع مشاهده في إطار واحد ولأطول فترة ممكنة من الوقت، ثم الإسراع في عملية التوليف في مشاهد أخرى. في معالجة الفيلم جديا هنا، ثم البحث عن مناسبات كوميدية هناك. كذلك في أن رغبته في الوصول إلى مستوى من التعبير الفني لا تنم عن نظام مبدئي يؤدي إلى أسلوب عمل وتعبير، بل عملية تصنيع مفذلكة لا روح فيها. في حدود ذلك كله، هو فيلم ذو قصة كان يمكن أن تكون مثيرة لو قدمت نفسها فعلا على هذا النحو، وليس بحشرها في أتون محاولات تفنن غير مجدية.

أخبار «كان»

* أقام مهرجان دبي السينمائي حفلة غداء باتت تقليدا سنويا الهدف منها جمع أهل الخبرة في مكان واحد والتداول طويلا حول مستقبل السينما والعلاقة بين السينما العالمية ومهرجان دبي السينمائي.. المدعوون كانوا من المجتمعين العربي والعالمي، أما الحديث فبكل اللغات.

* بينما يستعد الفيلم اللبناني «لوين هلق» أو «إلى أين من هنا» (حسب ترجمة عنوانه بالإنجليزية) لمواجهته مع النقاد والجمهور الكاني، أكد مهرجان الدوحة، وهو الذي دعم تجربة المخرجة اللبنانية نادين لبكي، صاحبة الفيلم، أنه قرر خوض 25 مشروعا في مراحل مختلفة من العمل وبمستويات مختلفة من الدعم. بين هذه الأفلام عشرة مشاريع مصرية وخمسة لبنانية بات مخرجوها يتطلعون إلى تنفيذها في الأشهر المقبلة.

* قدر من السرية يحيط بمصير فيلم «الذهب الأسود»، الفيلم الفرنسي لجان جاك آنو، الذي تم تصويره بين تونس وقطر، فبعد أن كان حديث الصحافة مؤخرا بات من النادر أن تسمع أو تقرأ شيئا عنه. الفيلم من إنتاج طارق بن عمار.

* أعلن المخرج الأرجنتيني جوان جوزيه كامبانيلا، الموجود في «كان»، عن انتهائه من إنجاز فيلمه الجديد «الفوتوبول.. 3 أبعاد»، وهو رسوم متحركة. المخرج كان قد حاز أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن فيلمه السابق «السر في عيونهم»، وحين سُئل عن سبب تحوله إلى الأنيماشن، أجاب: «الإغراء كمن في أن الإنتاج كان سهلا، ولو أن مراحل العمل كانت صعبة إذ تطلب العمل 3 سنوات متعاقبة».

* الممثل كريستيان بايل يتحدث عن مشروعه الجديد «أبطال نانكينغ» فيقول: «سعدت بتمثيلي هذا الفيلم للمخرج زانغ ييمو وبالحياة في الصين لفترة التصوير. إنها تجربة متكاملة من كل الجوانب.. تقع أحداث الفيلم سنة 1937 حول أميركي يجد نفسه في وسط الحرب بين اليابان والصين.