مداخل فريدة لتدريس العلوم والتقنيات الحديثة

حتى لا تصبح هذه المواد الأكاديمية مملة والاهتمام بها غائبا

بدأت المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، في الاستفادة من التقنيات الحديثة وشبكة الإنترنت في التوجه نحو التعليم الإلكتروني وإعداد برامج إلكترونية مميزة لتطوير تدريس العلوم والرياضيات
TT

تدريس العلوم والاهتمام بها، علامة مميزة لتقدم الأمم وتحضرها، ويعد من القضايا العالمية ذات الاهتمام المتزايد حاليا، وبخاصة مع الانخفاض الكبير في مستوى اهتمام ومعرفة الطلاب بالعلوم، وكذلك مع التراجع المتواصل في التحاقهم بالدراسة في الكليات العلمية، وخصوصا العلوم التطبيقية الأساسية، مثل: الفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا، والرياضيات، وعلوم وتقنيات واتجاهات العصر الحديثة المتسارعة، مثل تقنيات «النانو» (التقنيات متناهية الصغر) والخلايا الجذعية وطب التجديد وهندسة الأنسجة والذكاء الصناعي و«الروبوتات».

وتطرح قضية عزوف الطلاب عن الاهتمام بالعلوم ودراستها وقصور أساليب تدريس العلوم الحالية الكثير من التساؤلات المهمة الجديرة بالاهتمام، من قبيل: هل تدريس العلوم في مدارسنا وجامعاتنا يواكب علوم العصر والمستقبل وتطوراتها المتسارعة ويتناسب مع المعايير العالمية؟

وهل القائمون بالتدريس لديهم خلفية مناسبة عن هذه العلوم وآفاقها الواعدة في كل المجالات؟

وكم مجلة، وصفحة علمية، وبرنامجا علميا في فضائياتنا، وموقعا علميا، ومدونة علمية لعلمائنا على الإنترنت، يمكن أن تسهم جميعها بفاعلية في دعم تدريس العلوم والاهتمام بدراستها وتحفيز الطلاب على فهم عجائب العلوم؟

وكم من أبنائنا ومعلمينا يعرف عن علوم وثورات العصر والمستقبل الحديثة مثل ثورة تقنيات «النانو» وثورة الروبوتات والذكاء الصناعي وثورة البيوتكنولوجي (التقنية الحيوية) والخلايا الجذعية وهندسة الأنسجة وطب التجديد، وثورة الفضاء الإلكتروني والتفاعل بين البشر والآلات؟ وكم نصيب هذه العلوم المستقبلية الواعدة في مقرراتنا ومناهجنا وأنشطتنا الدراسية ومعاملنا للعلوم؟ وهل تتناسب مع مستويات الطلاب؟

أليست التكنولوجيا والأجهزة الحديثة التي نستوردها لنستخدمها ونستمتع بها يوميا، هي في الأساس تطبيقات عملية لعلوم ونظريات استفادت منها المجتمعات المتقدمة وحولتها إلى صناعات واستثمارات هائلة، كم منا يعرف ويفهم كيفية عمل هذه الأجهزة، وهل يمكننا إصلاحها إذا أصابها أي أعطال بسيطة؟

في كتاب لمعلمي العلوم ومدربيهم، صدر خلال شهر مارس (آذار) الماضي، وضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعا، عن «الرابطة الوطنية لمعلمي العلوم» في أميركا، توصي به الرابطة ضمن أفضل مواد لدعم تدريس العلوم، بعنوان «علم قوة الدماغ: التدريس والتعلم مع أحداث متناقضة»، من تأليف البروفسور توماس براين، مدرس العلوم السابق ومدير مركز العلوم والرياضيات وتكنولوجيا التعليم التابع لجامعة بينغهامتون في ولاية نيويورك الأميركية، ويقصد بالأحداث المتناقضة، المهام والأنشطة التعليمية في التدريس التي تأتي نتائجها بصورة غير متوقعة وتثير الدهشة لدى الطلاب، لتساعدهم على الوصول إلى حالة من الانتباه واليقظة وتولد شعورا داخليا ورغبة شديدة لديهم لحل هذا التناقض، وكما هو معروف لدى العلماء أن الدماغ يمكنه تغيير تكوينه نتيجة للحفز والإثارة، وهو تأثير يعرف باسم المطاوعة أو قابلية التشكل. ويشير براين في كتابه إلى أهمية استخدام المعلمين في تدريس العلوم لعنصر المفاجأة، وتحدي تصورات الطلاب المسبقة حول المفاهيم العلمية موضوع الدراسة، كما يؤكد أهمية فهم كيفية عمل الدماغ البشري كجانب مهم من جوانب التعليم الجيد، وأهمية استخدام الحواس المتعددة للطلاب لاستقبال المعلومات ولإشراكهم عاطفيا وإثارة دافعيتهم وحب الاستطلاع لديهم وجذب انتباههم لفترة طويلة، لتنشيط اهتمامهم، وبالتالي يكون التدريس والتعلم أكثر فعالية ويضفي جوا من الحماس والمتعة.

تدريس العلوم لم يعد فقط مقررات ومناهج دراسية جافة ومعامل للعلوم غير كافية وغير مجهزة لا تستطيع ملاحقة تطورات العلوم المتسارعة، بل هو منظومة متكاملة يشارك فيها كافة مؤسسات وهيئات المجتمع المعنية بتنشئة وإعداد أبنائنا ومواطنينا علميا على علوم وتقنيات العصر، مثل وسائل الإعلام، والمكتبات، والكتب العلمية، ومتاحف، ونواد، ومهرجانات، ومسابقات العلوم، والأفلام العلمية، والندوات، والمؤتمرات، وورش العمل العلمية في المدارس والجامعات، واستقطاب علماء بارزين لإلقاء المحاضرات والتدريس لطلاب المدارس والجامعات في مواضيع بعينها، وأيضا مدى استخدام أساليب الاتصال والتكنولوجيا الحديثة والإنترنت في إعداد برامج وأفلام علمية تسهم جميعها في دعم تدريس العلوم وتشجيع الاهتمام بها والإقبال على دراستها.

فمع التطور المتزايد عالميا في وسائل وأساليب التقنيات الحديثة، وبخاصة شبكة الإنترنت، بدأت الدول المتقدمة في التوجه نحو تطوير طرق وأساليب وبرامج تدريس العلوم ونشر الثقافة العلمية بطريقة تفاعلية ترويحية سهلة ممتعة تشجع الطلاب والناشئة وأفراد المجتمع كافة على الاهتمام بالعلوم ودراستها، وتسهم في الوقت نفسه في دعم الأنشطة العلمية والتعليمية العامة بالمدارس بما يتماشى مع خطة الدولة بعيدة المدى للعلوم والتكنولوجيا وبخاصة اتجاهات العلوم الحديثة التي قد لا تتمكن المقررات والأنشطة التعليمية من ملاحقتها ومتابعتها لتطوراتها السريعة والمتزايدة.

ومن بين المداخل والمشاريع الحديثة والفريدة لدعم تدريس العلوم ونشر الثقافة العلمية، وبخاصة مع التوجهات العالمية نحو استخدام التعليم الإلكتروني، «مشروع واحات العلوم».

وقد بدأت المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، في الاستفادة من التقنيات الحديثة وشبكة الإنترنت في التوجه نحو التعليم الإلكتروني وإعداد برامج إلكترونية مميزة لتطوير تدريس العلوم والرياضيات للارتقاء بدور الطالب وتعليمه المهارات العلمية والتقنية بأسلوب تفاعلي ممتع، وكذلك في إنشاء مشاريع واحات العلوم، ومنها «واحة الأمير سلمان بن عبد العزيز للعلوم» في الرياض، و«مركز الأمير سلطان بن عبد العزيز للعلوم والتقنية» (سايتك) في محافظة الخبر بالمنطقة الشرقية، و«واحة جدة للعلوم».. وغيرها، التي تسهم جميعها في دعم ومساعدة الموهوبين والمبدعين وصقل وتنمية قدراتهم في مرونة ويسر بعيدا عن المناهج التعليمية التقليدية المضغوطة، وبالتالي الإسهام في مواكبة التقدم العلمي والتقني ودعم مسيرة وتطور التعليم والمجتمع، وكذلك المشاركة في المسابقات والمنتديات العلمية العالمية الخاصة بالمبتكرين والمبدعين.

فمثلا «واحة الأمير سلمان للعلوم» في الرياض وموقعها الإلكتروني (www.psso.org.sa)، مشروع غير ربحي يهدف إلى دعم الأنشطة التعليمية العامة ونشر الثقافة العلمية بين فئات المجتمع كافة، وإشباع وتنمية الفضول العلمي لدى الأفراد والناشئة وتحفيزهم على الإبداع والابتكار من خلال أساليب وبرامج علمية مميزة وفاعلة وجذابة ترويحية وسهلة وممتعة، تسهم في دعم متطلبات التنمية العلمية والخطة الوطنية الشاملة بعيدة المدى للعلوم والتقنية في السعودية، فمن بين البرامج المميزة للواحة لدعم العملية التعليمية برنامج «المعامل الافتراضية للعلوم والرياضيات»، الذي يعد بديلا عمليا للمعامل العلمية للمدارس، وبخاصة التي لا تتوافر لديها الإمكانات المكانية أو التخصصية أو المواد المطلوبة، حيث يوفر بفاعلية ومرونة وسهولة، إجراء التجارب والمهارات العملية والمراجعة للطالب على مدار اليوم وحسب الحاجة، وتمكينه من التفكير والإبداع.

ومن بين برامج الواحة الأخرى الجديدة المواكبة للتقدم العلمي العالمي برنامج «تقنية الروبوت» للناشئة من عمر 9 إلى 14 عاما، بما يوفره لهم من بيئة تعليمية تفاعلية مبدعة تكسبهم المهارات العلمية والتقنية اللازمة، بهدف تدريبهم على برامج الحاسوب المخصصة لبرمجة الروبوت، وبالتالي مساعدتهم في تصميم أجهزة روبوتية مبرمجة للقيام بمهام معينة، الأمر الذي يشجع الناشئة على دراسة العلوم والتقنية والكشف عن المبدعين والموهوبين منهم.

تدريس العلوم والاهتمام بها، من القضايا العاجلة بالغة الأهمية، التي تحتاج إلى إعادة نظر باستمرار لتتماشى مع المعايير الدولية، وبخاصة مع التطورات العلمية المتسارعة، حتى يصبح الإقبال على الاهتمام بالعلوم ودراستها متعة وفائدة، ولن يتم هذا إلا من خلال إدراك الجميع أولا أنه لن يصبح لنا قيمة إلا بالاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا وتشجيع الثقافة العلمية، حتى نصل بها إلى درجة تساوي، بل تتجاوز، اهتماماتنا بالفنون والرياضة، وثانيا لا بد من استحداث واستخدام أساليب ومداخل تدريس تفاعلية متميزة يتفاعل معها الطلاب، مثل الطرائف والقصص والأفلام العلمية والخيال العلمي وأغاني العلوم وتوظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وشبكة الإنترنت والمواقع الإلكترونية مثل المعامل الافتراضية للعلوم وموقع «يوتيوب» لإعداد برامج وأفلام وفيديوهات علمية، وتنظيم زيارات ورحلات علمية لمعامل ومراكز البحوث والمتاحف العلمية لمشاهدة تجارب وبرامج علمية حية تساعد على إدراك قيمة وأهمية العلوم وجهود ودور العلماء في خدمة المجتمع، وتسهم في تدعيم وتعزيز تدريس العلوم في مدارسنا وجامعاتنا، وبالتالي الإسهام في تنشئة أجيال جديدة ومنذ الصغر على حب العلوم والتكنولوجيا واستخدام التفكير والمنهج العلمي، مع ضرورة الإسراع في إعداد برامج متميزة لإعداد معلمي علوم المستقبل، من أجل تدريس ينمي التفكير الابتكاري ويشجع على الخيال والإبداع، ليسهم في إعداد علماء ومخترعين ومبدعين يسهمون في تقدم مجتمعاتنا والعالم.