مهرجان كان السينمائي الدولي (6): كان.. قطعة موزاييك تكاد ترفض إلا أن تكون فوضوية

Tree of Life.شجرة الحياة
TT

هناك مكونات لا يملكها أي مهرجان آخر وتتدخل فيها حتى الطريقة التي تتوزع فيها أكشاك الصحف على رصيف الكوت دازور. الزحمة التي تشتد عند مداخل الفنادق. المطاعم المنتشرة على الشواطئ وتلك الموزعة في كل الأرجاء. تلك الطرق الضيقة المخفية في المدينة العتيقة، الجو حين تكون السماء صافية والجو حين تكون ماطرة.

هناك شيء في التجمع الكبير عند أسفل السلم العريض لصالة ديبوسي، أو الصف الطويل قبل النزول إلى صالة نوغا هلتون. شيء في المناقشات التي تدور بين المتجمعين. في الحقيقة أن ذلك التجمع الذي يسبق كل عرض بنصف ساعة هي المرة الوحيدة التي يتحدث فيها معظم الناس لبعضهم البعض عما شاهدوه. حال الدخول إلى الصالة يتفرق أولئك الذين كانوا يقفون معا ولا يعود بالإمكان استكمال الحديث.

وجدت تلك الوقفة من الشعائر الاجتماعية الفريدة أينما كنت. هناك صفوف أيضا في برلين وفينيسيا وتورونتو وربما في كل مهرجان آخر، لكن لا شيء مثل ذلك التجمع الذي في كان.

هناك بالطبع ما هو أكثر وأكبر من ذلك. هناك حقيقة أن القائمين على هذا المهرجان يدركون ما لا يدركه الآخرون من أسرار تكمن في الأسلوب والنوعية. في الأساس، ليس هناك من شيء في فرنسا إلا وله أسلوب خاص يختلف عن مثيله في أي مكان. بما في ذلك مدينة «كان» ذاتها. هل تشبهها مدينة أخرى حول العالم؟ ساحل بنحو نصف كيلومتر طولا وأقل من ذلك بكثير عرضا و.... هذا كل شيء. فوقه ينتشر ليل نهار المنتجون والموزعون والسينمائيون والعاطلون عن العمل والحالمون والواعدون والموعودون ورؤساء المهرجانات والموظفون الملتحقون بالمكاتب والأسواق والستاندات المختلفة، ثم - فوقهم - أكثر من أربعة آلاف إعلامي من ناقد إلى مصور مرورا بالصحافيين الباحثين عن الخبر أو الحفلة الليلية.

أين تجد كل ذلك فوق رقعة صغيرة؟

وماذا عن العازفين والرسامين والنحاتين وفناني المايم والمهرجين والشحاذين؟ باتوا جميعا جزءا من العالم المتحرك المؤلف من قطعة موزاييك تكاد ترفض إلا أن تكون فوضوية - رغم ذلك هي جزء من النظام. لا تستطيع إلا أن تكون كذلك.

اللبنانية وابن اللبناني في يوم واحد

* الجموع التي احتشدت صباح يوم أمس (الاثنين) لمشاهدة فيلم ترنس مالك «شجرة الحياة» في المسابقة حوت أكثر من 1700 ناقد وصحافي كلهم يرغبون في مشاهدة فيلم سمعوا الكثير عنه عن مخرج تبلور فجأة كأحد أهم مخرجي السينما في السنوات الثلاثين الأخيرة.

المخرج هو ترنس مالك، ابن لمهاجر لبناني سعى إلى تكساس واشتغل في النفط وبنى ثروة كبيرة مثله في ذلك مثل هوارد هيوز، الذي أم النفط ثم السينما والطيران بنفس واحد. لكن والد ترنس مالك، واسمه إيلي لم يكترث للسينما أكثر من اكتراث مشاهد عادي و - إلى حد معين - ملم. ترنس ولد سنة 1943 ودرس الفلسفة أولا ثم تابع في جامعة أكسفورد وفيما كتبه ترنس مالك من محاضرات، واحدة حول العالم ومفهوم الحياة عليه تسببت في خلاف بينه وبين أستاذه فترك الدراسة من دون شهادة دكتوراه. في العام 1969 نشر أطروحته كتابا بعنوان «أصل الأسباب» حول نظرية الفيلسوف الألماني مارتن هايديجر وبدأ بكتابة مقالات في مجلتي «نيوزويك» و«نيويوركر»، هذا قبل أن يلتفت إلى الإخراج السينمائي من دون سابق دراسة.

سنة 1969 أخرج فيلما قصيرا بعنوان «لانتون ميلز» وفي العام التالي شارك في كتابة فيلم بوب رافلسون «قُد، قال» Drive، He Said.

الذي قام جاك نيكلسون ببطولته. كتب أيضا سيناريوهين آخرين في مطلع السبعينات قبل أن ينطلق لإخراج أولى ملاحمه الشعرية: «بادلاندز» سنة 1973 الذي تولى بطولته وجهان شابان حينها هما مارتن شين وسيسي سباسك. لم يكن للفيلم موزع حين بوشر عرض الفيلم في مهرجان نيويورك في ذلك العام، لكن حينما انبرى النقاد يحيون هذا الفيلم بإعجاب مدو، تشجعت شركة «وورنر» واشترت حقوقه وأطلقته.

هذا النجاح دفع شركة «باراماونت» لتغطية تكاليف فيلم مالك الثاني «أيام الجنة» Days of Heaven.

وفي حين أن الفيلم الأول دارت أحداثه في الخمسينات، فإن أحداث الفيلم الثاني سبقت تلك الفترة إلى مطلع القرن العشرين. الفيلم نال جائزة مهرجان «كان» سنة 1979 في ميدان أفضل إخراج، ونال أوسكار أفضل تصوير في الولايات المتحدة بعد ذلك.

ما بين الفيلمين خمس سنوات غاب فيها مالك عن العمل. لكن هذا الغياب لم يكن شيئا يذكر حيال اختفائه التام مباشرة بعد «أيام الجنة» ولفترة ثماني سنوات قبل أن يظهر في أفضل حال مع مشروع فيلمه الروائي الثالث «الخط الأحمر النحيف» الذي تم عرضه سنة 1998.

لنتذكر هنا، أن الغياب عادة ما يقتل الإبداع، أو - على الأقل - ما يشجع السينما على النسيان. لكن في حالة مالك الأمر اختلف: الترحاب الكبير بعودته ثم الترحاب الأكبر بفيلمه جعلاه في العناوين الكبيرة مرة ثانية.

«الخط الأحمر النحيف» المقتبس بتحرر عن رواية جيمس جونز، دار حول مفكرة جنود أميركيين يخوضون الحرب العالمية الثانية في بقاع جنوب آسيوية. وجاء عرضه بعد أسابيع من عرض فيلم ستيفن سبيلبرغ الحربي «إنقاذ المجند رايان» الذي استقبل جيدا. ذلك الاستقبال الجيد بدا شاحبا أمام ذاك الذي ناله مالك عن فيلمه. جودة فيلم سبيلبرغ جودة تقنية وتنفيذية. يستمد معالمها من عشرات الأفلام الحربية التي أحبها صغيرا ويضيف عليها إحساسه، لكنه يبقى في إطار المتابعة القصصية لحال شخصياته. ما يضيفه مالك على كل ما سبق هو أن هذه المتابعة القصصية تضع الحكاية جانبا لتستمد أهميتها من نظرة المخرج الفلسفية يعبر عنها بشهادات الجنود حين يكتبون وحين يحاربون، كذلك من حقيقة أن الموقع الحربي ليس بالضرورة هو الهدف ولا ما في بال المخرج لإثارة التشويق، بل المناسبة التي سيمعن فيها المخرج البحث في شخوصه (شون بن، نك نولتي وإلياس كوتياس بين المحاربين).

كتب مالك بعد ذلك السيناريو الأول الذي اعتمد عليه ستيفن سودربيرغ حين أخرج «تشي». هذا الفيلم الذي خرج قبل ست سنوات، كان مفترضا بمالك إخراجه، لكن مالك انشغل بمشروعه الآخر «العالم الجديد» الذي فتح أفقا جديدا في تناول مواضيع الهجرة البيضاء إلى أميركا واللقاء بين الأوروبيين وبين أهل البلاد الأصليين، ثم الهجرة المعاكسة متمثلة ببوكاهونتاس وهي ابنة أحد رؤساء القبائل إلى بريطانيا بعدما تزوجت من أحد القواد البريطانيين وهو جون سميث.

«هلق لوين؟» لنادين لبكي

* فيلم مالك الجديد «شجرة الحياة» هو عملاق هذا المهرجان وواحد من الأفلام المكلفة، ولو أن كلفته لا تصل إلى تلك المبالغ الخرافية التي تتكبدها الأعمال الحبلى بالمؤثرات والخدع والخروج عن المألوف. على العكس تماما، فإن فيلم اللبنانية نادين لبكي (المعروض في قسم «نظرة خاصة») هو فيلم صغير الميزانية لكنه، كما الحال بالنسبة لفيلم مالك، مبني تماما على الصيت الحسن الذي أنجزته في عملها السابق.

«هلق لوين؟» هو، كما حال فيلمها السابق «كاراميل» (المعروف أيضا بـ «سكر بنات») يدور في حياة ومواقف وشخصيات خمس نساء مسلمات ومسيحيات. هذه الشخصيات تواجه وضعا معقدا وتواجه بشجاعة: إنها متضامنة معا في سبيل الذود عن مجتمعها الصغير خلال أحداث الحرب اللبنانية. ومن هذا التعاضد لا يرتفع فقط صوت المرأة، بل النداء الأكبر للتضامن الاجتماعي ولإطلاق تلك اليمامة البشرية بجناحيها المسلم والمسيحي.

حسب المخرجة اللبنانية فإن الموضوع الجاد ينجح أكثر لو استطاعت استحواذ قدر متجانس من الجدية والسخرية: «أعتقد أنني أبحث عن التوازن بين الدراما والكوميديا لإيصال رسالتي حتى يمكن له أن يلهم الضحك كما العواطف».

وإذ لا يحمل الفيلم، رغم أحداثه، عبارة الحرب الأهلية، فإن السبب على حد قول المخرجة يعود إلى أنها تعتبر الحرب التي «دارت بين المسلمين والمسيحيين كان يمكن لها أن تقع بين أي طرفين: السنة والشيعة، بين السود والبيض، بين حزبين، أو بلدتين. إنها رمز عالمي».

وتضيف: «قصة الفيلم ليست عن الحرب، بل عن كيف نتجنب الحرب. لا تستطيع أن تعيش في لبنان من دون أن يلفك جو الحرب الذي يلون ما نقوم به وما نعبر عنه».

نادين الآن هي قوة سينمائية لبنانية ضاربة. موهبة برهنت عنها في الفيلم الأول، الذي كان - كهذا الفيلم - نسائي الهم والتركيبة والأحداث والذي انتهى بمشاركة مسيحية في عرس إسلامي دافعا بالعديد من المشاهدين آنذاك لتحية موقف مدرك ومختلف.

أفلام اليوم- بين أنياب الحلم والواقع

* الهجمة النسائية التي بدأ بها مهرجان «كان» عروضه الرسمية، في المسابقة وخارجها، تبخرت عن أفلام تتميز في خانة التمثيل وحدها، وتتلاشى أهميتها حين النظر إلى باقي خانات العمل.

في تلك الخانة المميزة لمعت إميلي براوننغ وتيلدا سوينتون فبات من المقرر توقعهما كمرشحتين أساسيتين في سباق التمثيل. وهذا هو أفضل بكثير من فيلم المسابقة الذي عرض يوم أمس (الاثنين) تحت عنوان «بيت التسامح» للمخرج الفرنسي برتران بونيللي. مجموعة كبيرة من النساء، بينهن التونسية حفصية حرزي، والفرنسيات سيلين ساليتي، جاسمين ترينكا، هديل هاينل، أليس برارنول، إليانا زبيت، ولا تمثيل يرقى إلى المستوى المأمول. ذلك لأن الفيلم لم يسع لضخ حياة موازية في أي من شخصياته (النسائية أو الرجالية) فخرجت تلك الشخصيات صورا شاحبة.

إنه حول بيت للعاهرات أسس في «فجر القرن التاسع عشر» وبعد ثلث ساعة من دخول المكان ومتابعة نسائه في حالات مختلفة ننتقل إلى «فجر القرن العشرين» من دون أن تشيخ أي منهن. لم أنتظر طويلا لكي أعرف كيف يحدث ذلك أو إذا ما وفر المخرج تبريرا، فنيا أو من أي نوع لذلك. خلال نصف الساعة الأولى ليس هناك من موضوع متين يتم تأسيسه، ولا أهمية فعلية لما يحدث. الغاية، بدت لذلك الحين، هي إثارة إعلامية لموضوع يتم تصويره بأكمله في ذلك البيت وعاملاته وزبائنه. طبعا، تختلف الشخصيات (دزينة من النساء، نصفهن في الواجهة، ونصفهن الأخريات في الخلفية) فيما بينهن، لكن لا شيء يعبرن عنه يلقى صدى ما. كم كان من الأفضل لو أن المهرجان قدم عوض هذا الفيلم المظهري المفتعل في أسلوب عمله، إعادة لفيلم كلينت إيستوود «غير المسامح» (لاحظ تشابه العنوانين هنا) الذي دار عن كاوبوي تم استئجاره للانتقام لفتاة شوه رجل وجهها، وهناك فتاة بين نساء فيلم «بيت التسامح» يتم تشويه وجهها، وكيف استطاع إيستوود شحن الدراما وتقديم شخصياته النسائية (العاملات في المهنة ذاتها) على نحو من يكترث فعلا بمصائرهن.... وماذا تفعل الممثلة التونسية حرزي التي كانت لسنوات قليلة حديث الصحافة والنقاد بسبب ظهورها المتألق في «كسكس بالسمك؟».

في المسابقة تم عرض أول فيلم لمخرجين - زبائن. الأخوان جان بيير ولوك داردان سبق لهما أن عرضا معظم أفلامهما السابقة في مهرجان «كان» ويعودان الآن لطرح موضوع اجتماعي جديد ولو أنه لا يختلف، في منحاه ومنواله، عن فيلميهما «الابن» (2002).

الفيلم بعنوان «الفتى ذو الدراجة»، عن صبي مشاغب وغاضب اسمه سيريل (توماس دوريه) نتعرف إليه ثائرا على محيطه المدرسي حين يكتشف أن والده ترك الشقة التي يعيشان فيها وأن دراجته التي يعشقها اختفت. سيستعيد الدراجة (التي ستسرق منه مرتين بعد ذلك) وسوف يهتدي إلى مكان أبيه (الذي لا يريد أن يتعرف عليه بعد اليوم) وسيبقى غاضبا حتى من بعد انتقاله إلى عهدة امرأة شابة تعمل في صف الشعر كما في رعاية الأحداث.