مهرجان كان السينمائي الدولي (11): «السعفة الذهبية» لشجرة ترنس مالك

فعلها الممثل روبرت دي نيرو ومنح أفضل فيلم عرضه مهرجان «كان» هذا العام ضمن مسابقته الحافلة، وهو «شجرة الحياة»، الجائزة الأولى، جائزة «السعفة الذهبية».

روبرت دي نيرو رئيس هيئة التحكيم مع الفائزين بجوائز مهرجان كان امس (أ.ف.ب)
TT

حتى اللحظات الأخيرة كان التوقّع الأكثر انتشارا بين الحضور هو أن فيلم ترنس مالك قد لا يُمنح الجائزة التي استحقها، خصوصا أن المنافسة كانت شديدة على غير المعتاد، وذلك بسبب وضعية الفيلم ذات الخصوصية الشديدة.

فـ«شجرة الحياة» من تلك الأفلام الأميركية النادرة التي يحتار المرء في تصنيفها. فهو فلسفي وشعري وجمالي وروحاني، كما هو دراما عائلية عن الفجوة بين الآباء والأبناء. في الوقت نفسه يبدو النص مستلهما، ولو بمقدار، من حياة المخرج نفسه ما يجعله - إلى حد ما أيضا - فيلما بيوغرافيا.

أخرجه ترنس مالك الذي لم يصعد حفل الختام كما غاب عن المؤتمر الصحافي حين تم عقده من قبل مكتفيا بالقول، عبر بطل الفيلم براد بت، إنه يفضل أن يتحدّث الفيلم عن نفسه بنفسه. لكن يبدو أن الفيلم تحدث جيدا. في الوقت الذي ذهبت جائزة الإخراج إلى الأميركي نيكولاس وندينغ رين عن فيلمه «درايف»، وبذلك حظت السينما الأميركية بأهم جائزتين، بالإضافة إلى جائزة أفضل ممثلة التي ذهبت لكرستين دانست، بطلة فيلم «ميلانكوليا»، من إخراج المخرج المثير للمتاعب لارس فون ترايير.

وقد توقع الحاضرون أن تنتقد الممثلة، وهي يهودية، تصريح المخرج التي ذكر فيها إعجابه بهتلر، لكنها على العكس قامت بشكره مبتهجة.

أفضل ممثل ذهبت إلى الفرنسي جان دوجاردان عن دوره في فيلم «الفنان»، وهو عمل صامت ومثير للاهتمام، ولو أنه خرج من دون تقدير آخر. جائزة أفضل سيناريو نالها الإسرائيلي جوزف شيدار عن «ملاحظة»، في حين نالت الممثلة - المخرجة ميروَن جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمها الحيوي «بوليس». وفيلمان تناصفا الجائزة الثانية في الترتيب وهي الجائزة الكبرى، هما «بيت التسامح» الفرنسي، الذي لم يُتوقّع له أن يتجاوز سواها، و«الفتى ذو الدراجة» للأخوين جان - بيير ولوك داردان. ما لم يكن متوقعا أيضا هو إغفال مخرجين مهمين من وزن التركي نوري بيلج جيلان والإسباني بدرو ألمودوفار والفنلندي آكي كورسماكي والإيطالي ناني موريتي.

صمت المحلفين

* خارج هذا الإطار، ولو في تواصل معه، هناك حقيقة أن كل الأفلام الجيدة أكثر من سواها، كانت من النوع التأملي المنسوج من لقطات بعيدة تكثف اللحظة وتعيد إنتاجها كما لو كانت لوحة سرمدية: فيلم ترنس مالك «شجرة الحياة» من هذا النوع، وأكبر الأفلام المعروضة هنا إنتاجا وعلى مزاياه الفنية المبهرة فإن حظوظه في الفوز لم تبد كبيرة.

فيلم تأملات أخرى متجسد في الفيلم الياباني «هارا - كيري: موت ساموراي» لتاكاشي ماييكي الذي يسرد أكثر من موقف عبر الكاميرا الثابتة على إحدى شخصياته. فهو يتعامل مع تلك الشخصية منفصلا مع تعامله مع الحكاية التي يسردها وحين الانتقال للحكاية تصبح في زمن آخر ليس لأن الفيلم مبني على الفلاشباك، بل لأن كل فلاشباك، ومثلما فعل أكيرا كوروساوا في فيلمه الرائع «راشامون» إنما يفتح نافذة مختلفة على الحدث ذاته.

والفيلم الثالث المتمتع بهذه الصفة الفنية هو «حدث ذات مرة في الأناضول» لنوري بلجي جيلان: هو أيضا سينما تأملات بعيدة يمارسها من دون تفريط من مطلع الفيلم وحتى نهايته المتفجرة.

في المقابل، حطت أفلام ورحلت من دون أن تثير أكثر من وميض وبعض هذه الأفلام من توقيع مخرجين معروفين بينهم بدرو ألمودوفار صاحب «البشرة التي نعيش فيها» ولارس فون تريير صاحب «ميلانكوليا» الذي بقي ضمن المتنافسين ولو أن إدارة المهرجان طردت مخرجه واعتبرته شخصا «غير مرغوب به».

لكن إذا ما كان هناك عضو أو عضوان في لجنة التحكيم كان مستعدا لمنح فيلم تريير صوته فإن هذا العضو سوف يلوذ بالصمت بسبب ما حدث. فمن هو الذي سيفكر بالتصويت لفيلم مخرجه أعلن هيامه بهتلر؟

وكان المهرجان انطلق بسلسلة من الأفلام النسائية، وهي برمجة ربما أمنت تعليقات النقاد والإعلام، لكنها لم تساعد المخرجات المشتركات لأن الجمع بين أفلامها تم بقدر من التخصيص والتفريق.

مايون، المخرجة الفرنسية التي حققت أفضل أفلام بنات جنسها، وعنوانه «بوليس» تقف في المقدمة في التوقعات إذا ما تعاطفت معه أصوات الأعضاء الإناث (أربعة)، لكن الحال ليس كذلك مع فيلم جولي لي «جمال نائم» الذي فقد بوصلته فانتهى إلى إعلان حالة لا تستدعي أكثر من المتابعة عوض أن تتمتع أيضا بالاهتمام. أما فيلم لين رامزي «نحتاج للحديث عن كفن» فهو الأسوأ بينها ولو أن تمثيل تيلدا سوينتون ليس سهلا القفز من فوقه.

وعلى ذكر التمثيل، فإن سوينتون مقارن بذاك الذي أفرزته إميلي براوننغ في «جمال نائم» وذلك لأن الأدوار النسائية قليلة. البعض توقع أن تنال بطلات فيلم برتران بونيللو «منزل التسامح» جائزة جماعية كما كان حال أبطال فيلم رشيد مشهراوي السابق «أيام المجد» الذي منح أبطاله الرجال مثل تلك الجائزة، لكن لا يوجد سوى التمثيل الحسن هناك. رغم هذا فمن الممكن أن يذهب التصويت إلى تلك الحفنة التي من بينها التونسية حفصية حرزي والفرنسيات ناوومي لفوسكي، سيلين ساليت، أديل آنيل وسواهن.

* لقاء- الممثل شون بن: «الإخراج مثل الوقوع في الحب»

* شون بن، بات وجها مألوفا في مهرجان «كان» منذ أن تم تقديم فيلم من بطولته أخرجه كلينت ايستوود سنة 1994 بعنوان «ميستيك ريفر». حين ترأس لجنة التحكيم حين كان ايستوود مرشحا للفوز بجائزة ما عن فيلمه الجيد «تبادل»، لكن بن لم يبادل المخرج المعروف وتوجه بالجائزة لفيلم آخر.

هذا العام لديه فيلمان في المسابقة: «شجرة الحياة» ويلعب شخصية رجل يتوق حبا في ترك مقعده في الحياة الحاضرة والانطلاق في الطبيعة، حيث يكمن معظم ماضيه، و«هذا يجب أن يكون المكان» حول المغني السابق الذي يترك أيضا موقعه في الحياة وينطلق بحثا عن ماضي والده.

* فيلمان يحملان تشابها في القصة إذن؟

- صحيح، لكنهما مختلفان جدا في كل شيء آخر.

* إذا ما كانت جائزة لك عن تمثيلك لأحد هذين الفيلمين، أيهما تود الفوز عنه؟

- هذا سؤال نظري صعب الجواب عليه ببساطة. كل من هذين الفيلمين فيه موضوع يتصف بالبحث كما قلت، لكن الجانب الذي أراه أكثر أهمية أنه كل منهما ينتمي إلى أسلوب تمثيل مختلف، كما بالطبع إلى أسلوب إخراج مختلف. لقد استمتعت كثيرا بدوري في فيلم «شجرة الحياة» إذ حمل جديدا على أكثر من صعيد من بينه صعيد فلسفي. يذكرني هذا الفيلم جدا بفيلمي السابق لأن الإنسان فيهما يقوم برحلة للبحث عن جوهره. طبعا كل في إطار مختلف.

* تقصد فيلم «داخل الطبيعة» الذي أخرجته قبل أربع سنوات؟

- نعم، هل ترى الرسالة المشتركة إلى حد. لا أقول إن الرسالة هي ذاتها هنا وهناك لكن فيها ملامح مشتركة. فيلمي السابق هو عما نتعلمه من الحياة حين نكون وحدنا. بطل فيلمي هناك كان شخصا وحيدا ترك كل شيء لكي يختار العزلة ومات بسببها. في «شجرة الحياة» يترك كل شيء ويمضي بعيدا في بحثه عن الأصل. ربما يفعل ذلك وهو لا يزال جالسا على كرسيه وراء المكتب.. لا نعرف. لكنها رحلة طويلة قام بها على أي حال.

* إلى أي مدى تتعاطف مع رسالة فيلميك الجديدين هنا؟

- إلى حد كبير. المسألة أساسا هي أنني سوف لن أمثل فيلما لا أشعر صوبه برغبة أو حماس أو بعمل لا يشاركني ما أتطلع إليه. لقد عرض لي هنا في العام الماضي فيلم «لعبة عادلة». كان خارج المسابقة ولم يكن هناك الضغط الذي يتعرض له فريق العمل. ما أريد قوله، إن ذلك الفيلم المستند إلى قصة حقيقية لم تترك المجال أمامي حين قرأت القصة سوى الاشتراك بالفيلم لأنه كان يروي بعض الأسباب التي أدت بنا إلى احتلال العراق.

* كنت تعلم أن الكثير من هذه الأفلام التي تناولت حرب العراق أخفقت؟

- نعم، بكل تأكيد. لكن إخفاق هذه الأفلام ليس مدعاة للقلق بالنسبة إلي. في الحقيقة هذا الفيلم لم يفشل بل سجل نجاحا لا بأس به كما أعتقد.

* أتذكر تصريحا لك بأنك تحب الإخراج أكثر من التمثيل. ما الذي يوفره لك الإخراج في الحقيقة؟

- اهتمامي الخاص بالتمثيل يعود، قبل كل شيء، إلى أنني أحب الإخراج لأنه عمل يمدني بالحرية إذ إن القرار يبقى ملكا لي. من ناحية أخرى الإخراج ليس كالتمثيل. كممثل أظهر مرة كل عام وأحيانا مرتين في العام الواحد أو مرة كل عامين. لكن الإخراج مسألة تشبه الوقوع في الحب مرة كل خمس سنوات. ما بين المشروعين تقوم بقراءة مشاريع أخرى، تبحث وتفكر وتقبل أو ترفض. إنه مثل البحث عن المرأة التي تريد الوقوع في حبها (يضحك). هذا جيد بالنسبة لي لأن عندي ما أقدمه لسواي من أفكار. كوني ممثلا علمني أن الإخراج لا علاقة له بمدارس واتجاهات تحليلية تقدم عليها لكي تقف وتفكر فيما يدور لأن هذا هو السيناريو الذي تقوم بإخراجه. إنه المعرفة بكيفية جمع كل المشتغلين فيه، خصوصا الممثلين، والطلب منهم أن ينصهروا في حياة تصنعها لهم. الممثل يستطيع أن يعرف عن التمثيل أكثر حين يقف وراء الكاميرا. هذا هو أحد أهم العناصر التي تجعل بعض المخرجين القادمين من التمثيل أفضل من مخرجين قادمين من مدارس تعلموا فيها الإخراج.

* تبحث عن الأدوار التي تشغل بالك كما ذكرت وتثير حماسك. لكن حين نقرأ أنك سوف تؤدي دورا في فيلم كوميدي عن فريق «ثري ستودجز» نتساءل؟

- هل هذا خطأ؟ (يضحك). حينها فكرت أن الفيلم يستطيع أن يقدم صورة نوستالجية عن هذا الفريق المعروف، لكني انسحبت منه ولا أعلم الآن عما إذا ما كان سيتم إنتاجه أم لا. المهم أني تركته. الأدوار التي أمثلها هي ما أحب أن أكون مسؤولا عنها.

* جوائز نظرة ما

* على الصعيد الرجالي، لا بد أن الممثل الأميركي رايان كوزلينغ استرعى الاهتمام عن دوره (وأدائه) الجيدين في «درايف». بالتأكيد جلب صوتي دي نيرو وأوما ثورمان وربما جود لو. شون بن له دور قصير في «شجرة الحياة» ودور البطولة في «هذا يجب أن يكون المكان»، دراما حول مغني روك أند رول سابق ينسحب من حياته الفنية ليطارد النازي الذي كان أبيه يطارده لكشفه. دي نيرو ربما ليس الممثل الذي من الممكن له أن يعجب ببن، وبعض هذا اللاإعجاب له علاقة بالسياسة، فكلاهما على خط مختلف من الآخر.

«كان» لم يكن مسابقة فقط. بل كان أفلاما أخرى خارجه وبعضها كان يستحق أن يكون داخل المسابقة. فمن السهولة تصور خلو المسابقة من الفيلم الإيطالي «منزل التسامح» مثلا أو من الفيلم الإسرائيلي «ملاحظة» لجوزيف شيدار أو من الفيلم الياباني «هانيزو» لناوومي كواسي، لكن لا يمكن تصور فيلم «إيلينا»، وهو أحد الأفلام الملحقة بـتظاهرة «نظرة ما» خارجها غير متسابق مع باقي أترابه فيها. إنه الفيلم الثاني الذي يعرض في «كان» للمخرج الروسي أندريه جفياجنتزف: دراما ذات لمسات شابرولية في نصفها الثاني، حول الزوجة التي تقوم بقتل زوجها حين تدرك أنه سوف يمتنع عن مساعدة ابنها وعائلته وسيهب المال والأملاك لابنته. ومن حسن حظها أن الزوج كان أصيب بنوبة قلبية ما جعل الإنجاز عليه غير مشكوك بأمره.

هذا الفيلم نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة بتلك التظاهرة والتي قادها المخرج الصربي أمير كوستاريتزا. جائزة الإخراج في هذه التظاهرة ذهبت، بجدارة أيضا، إلى الفيلم الإيراني «وداعا» لمحمد رسولوف، والذي لم يتمكن من الحضور لتسلم جائزته. أما الجازة الرئيسية (الأولى) فانقسمت إلى شطرين. نصفها ذهب إلى الفيلم الكوري «أريرانغ» لكيم كي دوك و«متوقف على الخط» لأندريا درسدن.