توجهات عالمية نحو الاقتصاد الأخضر لمواجهة ظاهرة التغير المناخي

ما المقصود بالبصمة الكربونية.. وعلامة الجودة البيئية؟

البصمة الكربونية مؤشر يستخدم للتعبير عن معدل الانبعاثات الكربونية الناتجة عن عدة اصعدة على مستوى نشاط الأفراد أو المؤسسات أو الدول
TT

ظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري من القضايا العالمية الساخنة حاليا، والتي أصبحت حقيقة علمية مؤلمة لم تعد تقبل التشكيك، خصوصا بعد الكوارث الطبيعية المتزايدة التي تعرضت لها الكثير من الدول والمجتمعات من سيول وفيضانات وأعاصير وموجات جفاف وحرائق غابات واختلال في الطقس حول العالم وارتفاع في درجات حرارة الأرض عن معدلها الطبيعي، واختلال في النظام البيئي العالمي، وما لم تتخذ سياسات وإجراءات وممارسات عاجلة فعالة فسوف يتعرض كوكب الأرض ومستقبل الحضارة البشرية للمزيد من الكوارث والأخطار.

ومن بين الجهود والتوجهات العالمية الفعالة حاليا، والتي بدأت الدول بالفعل في الاهتمام والأخذ بها لمواجهة ظاهرة التغير المناخي، التوجه نحو الاقتصاد الأخضر (Green economy)، والذي يعد أحد المطالب والأولويات الأساسية للحفاظ على البيئة وحمايتها وتحقيق التنمية المستدامة التي تراعي الجوانب والأبعاد البيئية والاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية، حيث تفي باحتياجات الحاضر، من دون الجور على قدرة الأجيال المقبلة على تحقيق مطالبها ونصيبها من هذه الموارد، وبخاصة الموارد القابلة للنضوب وغير المتجددة.

وفي تقرير صادر خلال العام الحالي عن برنامج «الأمم المتحدة للبيئة»، بعنوان «نحو اقتصاد أخضر: مسارات إلى التنمية المستدامة والقضاء على الفقر»، بهدف تحفيز واضعي السياسات على خلق الظروف التمكينية لزيادة الاستثمارات في التحول نحو الاقتصاد الأخضر، يعرف برنامج الأمم المتحدة للبيئة الاقتصاد الأخضر بأنه الاقتصاد الذي ينتج عنه تحسن في رفاهية الإنسان والمساواة الاجتماعية بين البشر، في حين يقلل بصورة ملحوظة من المخاطر البيئية وندرة الموارد البيئية، ويمكن النظر للاقتصاد الأخضر في أبسط صوره كاقتصاد يقل فيه انبعاث الكربون والتلوث، وتزداد فيه كفاءة استخدام الموارد، كما يستوعب جميع الفئات الاجتماعية.

ويشير التقرير إلى أن الفوائد الرئيسية من التحول إلى الاقتصاد الأخضر، تتمثل في خلق الثروات وفرص العمل المتنوعة، والقضاء على الفقر وتحقيق الرخاء الاقتصادي على المدى الطويل، من دون استنفاد للأصول الطبيعية للدولة وبخاصة في الدول منخفضة الدخل. كما أن تخضير معظم القطاعات الاقتصادية سيؤدي إلى خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى حد كبير، ففي عدد من القطاعات المهمة كالزراعة والمباني والطاقة والنقل يوفر الاقتصاد الأخضر المزيد من فرص العمل على المدى القصير والمتوسط والطويل، فالزراعة الخضراء تتميز بالتوجه نحو ممارسات زراعية صحيحة بيئيا، مثل استخدام المياه بكفاءة والتوسع في استخدام الأسمدة العضوية والطبيعية والحرث الأمثل، ويؤدي الاستثمار في الزراعة الخضراء على مدار الزمن إلى زيادة جودة التربة وزيادة الإنتاج العالمي من المحاصيل الرئيسية. وفي قطاع الطاقة الذي يعد مسؤولا عن ثلثي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، يعمل التحول نحو الاقتصاد الأخضر على تحسين كفاءة الموارد الطبيعية والطاقة، وتمثل الطاقة المتجددة فرصا اقتصادية رئيسية في الاستثمارات في الطاقة النظيفة وفي تحسين الكفاءة، حيث يستبدل الوقود الأحفوري (كالفحم والبترول) بالطاقة النظيفة المستدامة والتقنيات منخفضة الكربون، وتزداد قدرة الطاقة المتجددة على التنافس حين تؤخذ التكلفة الاجتماعية لتكنولوجيات الوقود الأحفوري في الاعتبار، وتتضمن الحلول فعالة التكلفة، الكتلة الحيوية النظيفة والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وفي الاقتصاد الأخضر يمكن بناء مساكن خضراء جديدة وتطوير المباني الحالية عالية الاستهلاك للطاقة والموارد، وبالتالي المساهمة في زيادة الكفاءة في استخدام المواد والأراضي والمياه وتقليل النفايات والمخاطر المتعلقة بالمواد الخطيرة، وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بطرق منخفضة التكلفة، وتقليل تلوث الهواء داخل المباني. وفي قطاع النقل تعد الأشكال الحالية من السيارات الخاصة ذات المحركات مسؤولة أيضا عن التغير المناخي والتلوث والمخاطر الصحية، بينما في سياسات تخضير النقل، سيتم الانتقال إلى أوضاع أكثر كفاءة في أنظمة النقل العام والسيارات منخفضة الكربون الأقل استهلاكا للوقود والطاقة، غير المعتمدة على المحركات والتي تستخدم الوقود النظيف، لتقليل التأثيرات الاجتماعية والبيئية السلبية الحالية، واستبدال مكاسب صحية واقتصادية بها.

ونتيجة لإدخال مفهوم الاقتصاد الأخضر في الأنظمة العالمية الجديدة، أصبحت هناك معايير بيئية عالمية يجب توافرها في السلع والمنتجات للدخول والمنافسة في الأسواق العالمية، وأصبح من حق الدولة منع دخول أي منتج أو سلعة تخالف الشروط والأبعاد البيئية، كأن تكون مثلا ملوثة للبيئة أو مضرة بصحة الإنسان أو تم إنتاجها عن طريق استخدام مبيدات وأسمدة كيماوية سامة محظورة أو بالاستغلال الجائر للموارد الطبيعية في البيئة، أو تسبب إنتاجها في التدهور والإخلال بالتوازن البيئي.

ولهذا أصبحت المصانع ومؤسسات الإنتاج حريصة على وضع علامة الجودة البيئية على منتجاتها، والتي تبين أن المنتج أو السلعة خضراء، أي تم إنتاجها بطريقة تراعي الأبعاد والشروط البيئية العالمية، وهناك الآن مؤسسات دولية تمنح شهادات للمنتجات والسلع التي تراعي الاعتبارات والمواصفات البيئية.

يقول عالم النفس والصحافي العلمي الأميركي دانيال غولمان، في كتابه الصادر العام الماضي بعنوان «الذكاء البيئي: العصر القادم للشفافية الجذرية»، إن للشعار البيئي الأخضر (labels-Eco)، الموجود على المنتجات والسلع، والدال على أنها منتجة بطريقة تتناسب وتتوافق مع البيئة، أهمية كبيرة، إذ تحقق المؤسسات والشركات الكثير من المكاسب من وراء وضعه على منتجاتها، حيث يعد وسيلة فعالة لجذب المستهلكين للمشاركة في الحفاظ على البيئة. ويشير للكثير من الأمثلة على ذلك، ومنها مشروع مصممة الأزياء البريطانية آنيا هندرماش، التي صممت عام 2007 حقائب بلاستيكية تحمل شعار «أنا لست حقيبة بلاستيكية» (I’m NOT a plastic bag)، لتعبئة السلع الغذائية عند الشراء من المتاجر كبديل عن الأكياس البلاستيكية الملوثة، والتي استطاعت أن تبيع الكميات المنتجة منها في ساعات قليلة، وذلك في محاولة منها لزيادة وعي الجمهور بالآثار البيئية للأكياس البلاستيكية، من خلال حقائب أنيقة يعاد استعمالها. كما أن شركات العقارات والمباني، وبعد حملات ترويجية ترفع الشعار البيئي الأخضر الدال على أن المباني مصممة بطرق تراعي الاعتبارات البيئية من اقتصاد في الطاقة وتقليل التلوث وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، قد تمكنت من إقناع المشترين بجدوى شراء هذه المباني من أجل المشاركة في المحافظة على البيئة. ويشير غولمان إلى أن تمتع المستهلكين بالذكاء البيئي، المتمثل في قدرتهم وتمكنهم من معرفة وتحليل الآثار البيئية بعيدة المدى للمنتجات والسلع المعروضة، سوف يمكنهم من ناحية من اتخاذ قرارات شراء ذكية صائبة، من شأنها المساهمة في الحفاظ على البيئة، الأمر الذي سيقود المنتجين، من ناحية أخرى، إلى إعادة التفكير في مكونات منتجاتهم والابتعاد عما يضر بالبيئة وصحة الإنسان.

ويشير غولمان إلى أن الأدلة التي ستقودنا إلى فهم التأثيرات البيئية الخفية للسلع والمنتجات هي أن تتوافر وبشفافية البيانات والمعلومات المستخدمة في إنتاجها، ويعبر عن ذلك بمصطلح «الشفافية الجذرية» (Radical Transparency)، وتعني كشف الستار كاملا عن كيفية إنتاج السلع والمنتجات، بعرض جميع الحقائق والمعلومات والبيانات البيئية والصحية والاجتماعية المخفية للمنتج، بدءا من كمية انبعاثات الغازات الكربونية أو ما يعرف بالبصمة الكربونية (Carbon Footprint) للمنتجات والسلع والخدمات، مرورا بالمواد الكيمائية المستخدمة في عمليات الإنتاج وظروف معيشة وعمل ومعاملة العمال في المصانع ومؤسسات الإنتاج، التي يمكن أن تؤثر على البيئة وصحة الفرد، وذلك بهدف توفير البيانات والمعلومات الضرورية للمستهلكين عند شرائهم للمنتج، لاتخاذ قرارات اختيار وشراء سليمة وذكية مناسبة تراعي التقليل من الآثار البيئية السلبية حرصا على سلامة وصحة كوكب الأرض وصحة سكانه.

فالبصمة الكربونية مؤشر يستخدم للتعبير عن معدل الانبعاثات الكربونية الناتجة عن عدة مستويات، على مستوى نشاط الأفراد أو المؤسسات أو الدول، أو على مستوى عمليات إنتاج أو تصنيع المنتجات المختلفة والتي تشمل كل ما يتعلق بالمنتج من كيفية صناعته والمواد التي تصنع منه والناتجة عنه، وكيفية التخلص من المنتج أو على مستوى القيام بأنشطة أو خدمات معينة، ويمكن التقليل من البصمة الكربونية من خلال توجهاتنا نحو الاقتصاد الأخضر، مثل استخدام مصادر الطاقة المتجددة، والمباني الخضراء والأجهزة والمعدات الموفرة للطاقة، وأنظمة النقل العام منخفضة الكربون، وإدارة النفايات والتدوير، والتي تسهم في الحفاظ على البيئة واستدامة مواردها الطبيعية.

يبقى القول إن تعزيز الاستثمارات والأنشطة الخضراء في الموارد الطبيعية لمختلف قطاعات التنمية بهدف تطوير اقتصاد منخفض الكربون، في حاجة أيضا إلى أن تصاحبه استثمارات بشرية، تتضمن المعرفة والتوعية بالممارسات الاستباقية التي تراعي الاستدامة البيئية، والوعي بمفهوم الاقتصاد الأخضر واتجاهاته الحديثة والمهارات التقنية والإدارية، والتي ستوفر الكثير من الجهد والمال، واللازمة لضمان تحقيق مسارات تنموية فعالة أكثر استدامة تسهم في التقليل من حدة الفقر.