«المتحف الوطني اللبناني» يستقبل آلاف الزوار بعد أن شرع أبوابه مجانا

أيام التراث شجعت الأهالي على التجوال لمعرفة تاريخ بلادهم

استراتيجية الأبواب المفتوحة جلبت آلاف الزوار إلى المتحف الوطني اللبناني
TT

نجاح كبير حصدته الأيام التي خصصتها وزارة الثقافة اللبنانية للتراث، وفتحت الأماكن الأثرية أثناءها مجانا أمام الجمهور. فمنذ يوم الأربعاء قبل الماضي، وحتى مساء الأحد، تدفق آلاف اللبنانيين على هذه الأماكن، وكانت ثمة باصات تنقل البعض بين المناطق، كما خصصت عائلات يومي العطلة للاستفادة من المناسبة وزيارة ما تمكنوا من المتاحف والقلاع والقصور.

«المتحف الوطني» الذي لا يعرف غالبية اللبنانيين عنه سوى واجهته الخارجية الجميلة، رغم أن كلفة دخوله لا تتجاوز 3 دولارات للشخص الواحد، شهد زيارة نحو 3 آلاف شخص، وكان لافتا أن الأسر أتت من القرى والمدن الأخرى إلى بيروت، مصطحبة أطفالها، شارحة لهم، ملتقطة الصور مع آثار متحف له في وجدان اللبنانيين ذاكرة مريرة، بسبب وجوده على خط التماس بين البيروتين الشرقية والغربية أثناء الحرب، وتعرض محتوياته لخراب كبير.

والمتحف بهذه المناسبة يستنهض نفسه، وبدا الموظفون مبتهجين برؤية الزوار، لا سيما الأطفال الذين خصصت لهم يوم الأحد مسرحية لاجتذابهم. وأعلن وزير الثقافة اللبناني سليم وردة أن أكبر معرض للنواويس المجسدة، أي المنحوتة على شكل جسد الإنسان، سيشهده المتحف قريبا، في طابقه السفلي الذي سيفتتح بهذه المناسبة. والنواويس هي مقابر شبيهة بالصناديق كان يودع بها الأغنياء بعد وفاتهم، بعد أن تنحت بأشكال فنية متقنة. ويمتلك لبنان مجموعة كبيرة جدا منها، مزدانة بنحت رفيع، تعود غالبيتها إلى الحقبة الرومانية. وما يميز المتحف الوطني أن كل محتوياته هي مما وجد أثناء الحفريات على الأراضي اللبنانية، وبالتالي فإن الزائر يتعرف على الحضارات التي مرت على هذه الأرض، بدءا مما قبل التاريخ أي ما يناهز مليون سنة، مرورا بالعصر البرونزي والحديدي وبالهلنستي والروماني والبيزنطي، وصولا إلى الفتح الإسلامي وحتى العصر المملوكي.

أرض المدخل مزدانة بفسيفساء كبيرة، في حالة ممتازة، تستقبل الزائر، تعود إلى العصر البيزنطي في القرن الثالث وتصور الحكماء السبعة. الفسيفساء محاطة بمجموعة من أربعة نواويس رومانية كانت تنحت صناديقها في روما مزدانة بشخصيات أسطورية، وحكاياتها الشهيرة وآلهتها، وتصل إلى هنا جاهزة، ثم تنحت تماثيل من سيقبرون فيها على أغطيتها. وهي تماثيل نصفية كبيرة وجميلة لشخصيات ذاك العصر. وفي الطابق الأرضي نفسه، تلفت النظر مجموعة من المنحوتات الرومانية لأطفال وأشخاص بينهم ملوك وأباطرة كما قطع من الفسيفساء بينها واحدة تصور قصة أوروبا التي خطفت وذهب أخوها قدموس للبحث عنها حاملا الأبجدية الفينيقية معه، ناشرا إياها في العالم. وكذلك هناك مسلات، ومنحوتة فرعونية عملاقة لأحد الفراعنة، مسودة اللون نتيجة للظروف التي مرت بها أثناء الحرب اللبنانية. وهذا التمثال وجد عام 1926 على الأراضي اللبنانية. وهذه القطعة هي واحدة من مجموعة ليست بالقليلة في المتحف، عليها كتابات هيروغليفية، ونمطها فرعوني مصري. وهو ما يدلل على مدى الترابط الذي كان قائما مع الفراعنة في هذه المنطقة.

يجتمع زوار المتحف حول فتاة عشرينية تشرح قصص القطع المعروضة. تكبر الحلقة ويتبع الناس الفتاة من زاوية إلى أخرى للاستماع للشرح، وحين نسألها إن كانت مرشدة في المتحف، فتضحك وتقول إنها طالبة جامعية في قسم الآثار، كانت تزور المتحف مع عائلتها في هذا اليوم، وكانت تشرح لوالدها، فوجدت الناس يتجمعون حولها يريدون معرفة التفاصيل، فأكملت مهمتها معهم وأخذت تجول بهم وتجيب عن أسئلتهم الفضولية. وإلى الطابق الثاني انتقلت هذه الصبية ذات الصدر الرحب بمجموعة من الزوار وأكملت معهم الجولة، وتحولت عائلتها بذلك إلى أقلية وسط جمع كبير يريد أن يعرف أكثر عما يشاهده.

أما الطابق الأول فمخصص لواجهات زود بعضها بمكبرات لرؤية الدقة التي شغلت بها المعروضات اليدوية.. مجوهرات وحلي يعود بعضها إلى العصر البرونزي، وثمة حلي بيزنطية لافتة في حجمها وكميات الذهب الموجودة فيها، وأخرى مملوكية محلاة بكتابات عربية، وأوان فخارية من العصرين العباسي والأيوبي، إضافة إلى أباريق من المرمر من العصر البرونزي. وفي هذا الطابق أقنعة ووجوه مصنوعة من ورق الذهب، ومدافن فخارية، كما ألعاب قديمة وعلب ماكياج وزجاجيات وجرار، كلها تعود إلى عصور مختلفة.

تحار كيف تفهم المواد المعروضة، فالأزمنة متداخلة في الطابقين، والمعروضات تتبع أحيانا الحقب الزمنية وتارة الموضوع. ورغم قرب العهد الإسلامي فإن القطع الإسلامية هي الأندر بين المعروضات، رغم وجودها في لبنان لا سيما في الشمال، وتطغى على الموجودات الفترتان الرومانية والبيزنطية رغم أنهما أكثر بعدا في الزمن. فمن جميل هذه المعروضات، مجسم لمسرح روماني كامل، ومجسم آخر لمعبد روماني.

أماكن العرض محدودة، لذا يحتفظ بالكثير من المحتويات في المستودعات لحين تتاح الفرصة لعرضها، أحد النواويس موجود خارج المتحف عرضة لعبث المارة. الآثار في لبنان أكثر من أن تحصى وتحصر في متحف، والحرب فعلت فعلتها في الآثار التي كانت موجودة في هذا المكان قبل عام 1975. فقد عمد الموظفون إلى توضيب القطع الصغيرة للحفاظ عليها أثناء الحرب الأهلية، وأحيطت القطع الكبيرة بالإسمنت المسلح لحمايتها. وتمركز مسلحو الميليشيات داخل المتحف الواقع على خط التماس، ولم تسلم من جنونهم المحفوظات الموضبة، كما لم ترأف بها المياه التي طاف بعضها على البعض الآخر، وإحدى الواجهات التي تعرض القطع المخربة والمدمرة اليوم، تؤرخ لفظاعة ما حدث. فالزجاج ذاب حتى اختلط بالمعدن، ولم يبق من تلك القطع سوى آثار ذائبة ومتداخلة بفعل قوة النيران التي أصابتها.

وعام 1997 أعيد افتتاح المتحف، بعد أن تم الانتهاء من المرحلة التأهيلية الأولى، وقريبا يفتتح الطابق السفلي بعد أن بدأت ورشة تجفيف المياه وحل مشكلة الآبار الجوفية التي يعوم عليها المبنى، وسيكون هذا الطابق المكان الذي سيضم مجموعة فريدة من النواويس التي يصعب إيجاد مثيل لها في العالم.

يبقى أن الأيام التي خصصت للتراث، آتت أكلها. وهذه ليست المرة الأولى، فمنذ 13 سنة اتخذت وزارة الثقافة قرارا بفتح أبواب المعالم والأبنية التراثية أمام الجمهور كل ثالث خميس من شهر مايو (أيار). وصادف أن كان هذا التاريخ يوم 19، أي بعد يوم واحد من يوم المتحف العالمي، فاعتُمد اليومان معا. لكن الحظ العاثر جعل هذين اليومين (الأربعاء والخميس) يتقاطعان مع إضرابين كبيرين، ألغي أحدهما في اللحظة الأخيرة، لكن كان له تأثيره على حركة الناس، فاستفاد الزوار من يومي العطلة أي السبت والأحد للتعرف على آثار هي دائما في متناول العين إن أرادوا لكنهم نادرا ما شدوا الهمة للاهتمام بها.