حدائق ذات رونق إسلامي في نيويورك

«نيويورك النباتية» في برونكس تعيد نسخ أحاسيس قصر الحمراء

كان متوقعا أن يكون الفشل مصير أي محاولة نسخ للأحاسيس التي يثيرها قصر الحمراء، ولذا أنشأت «الحديقة النباتية» معرضا للإشارات والصور، في تقدير لأثر القصر وحدائقه
TT

أتذكر هذه الرائحة. كانت واضحة وجميلة في الصباح الباكر خلال فصل الصيف، وبعثت شعورا بالبهجة وكانت مفعمة بالحياة. وكانت تتغير عندما كنت أمشي إلى جوار نوافير يأتي منها صوت خرير الماء بصورة مستمرة، ونشأت حولها شجيرات نبات الآس العطري. لكني لم أعر الكثير من الاهتمام.

قبل ثمانية أعوام كانت هناك انطباعات أخرى، أسقف على شكل خلايا النحل، وجص مزين، وأشكال هندسية متداخلة مرسومة على الحجارة والقرميد، وأشجار السرو الطويلة، والأسقف المموجة. وبدا أن المكان، الذي جمع بين متناقضات يؤكد على دلالة أسطورية كحصن وحديقة للتنزه ومقر للحكم والسلطان ومكان لقضاء خلوة تأملية: إنه قصر الحمراء. ربما يكون من الصعب عليك أن تتوقع أن «حديقة نيويورك النباتية» في برونكس ستعيد نسخ هذه الأحاسيس التي يثيرها قصر يعود للقرن الرابع عشر في مدينة غرناطة الإسبانية، وذلك في معرضها الذي يفتح أبوابه اليوم السبت تحت عنوان «فردوس إسبانية: حدائق قصر الحمراء». ما الفكرة وراء محاولة محاكاة رسم السماء الموجود في سقف «قاعة السفراء» والقطع الخشبية المطعمة بنجوم مصنوعة من عرق اللؤلؤ.. أو في محاكاة السلم الموجود في حدائق القصر، حيث شكلت درابزينات السلم قنوات تتدفق فيها تيارات الماء حتى تشعر بأنك داخل تيار مياه متدفق أثناء نزولك على السلم تحت الأشجار المتدلية؟.. ونعرف من كتالوغ المعرض أن مصمم الحديقة روسل بايدج وصف السلم بأنه «أفضل شيء في تصميم الحدائق رأيته في أي مكان في العالم».

كان متوقعا أن يكون الفشل مصير أي محاولة نسخ مثل هذه، ولذا أنشأت «الحديقة النباتية» معرضا للإشارات والصور، في تقدير لأثر قصر الحمراء وحدائقه. وفي الخارج، وفي صالة عرض المكتبة، يوجد عرض لمطبوعات نادرة ومخطوطات ورسومات وغيرها من الآثار على مدار أربعة قرون تستدعي عبق قصر الحمراء للزائرين. ويضم المعرض الذي نظمه باتريك ليناغان، أمين جمعية الهسبانك الأميركية، بعضا من أول الأعمال التصويرية للقصر من الداخل من القرن السابع عشر، ورسوما لصور رومانسية من عمل الفنان ديفيد روبرتس وآخرين، وصورا رائدة تعود للقرن التاسع عشر لواجهاتها المدهشة وأفنيتها. وتوجد أيضا مواد لها صلة بواشنطن إرفينغ، الذي ساعد كتابه «قصر الحمراء» (1832) على منح القصر شعبية - على الرغم من أنه كان حينها عبارة عن أكوام من الأنقاض - ولا تزال هناك لمحة تقدير لإرفينغ بالحفاظ على الغرف التي أقام فيها.

لكن في قلب معرض الحدائق جزءا يمتد على مساحة 15.000 قدم مربع من «هابوت كوسرفاتوري». وتستقبل الزوار في الباحة الرئيسية نوافير تشبه تلك الموجودة في قصر الحمراء، ينبع منها صوت رقيق للمياه المتدفقة التي تسمعها أثناء التمشية عبر أفنية القصر أو عبر حدائقه (التي تعرف بـ«العريف»).

لكن كيف تكرم جمال هذه الحدائق من محاكاة رخيصة؟ من خلال الإشارات والانطباعات. وبمجرد أن تدخل إلى هنا، تفاجئك أولا الرائحة التي توقظ مجموعة من ذكريات زيارة إلى قصر الحمراء. وهناك تشكيلتان من الأزهار الأرجوانية، وأشجار موالح تحمل البرتقال والليمون والكالاموندين، ونبات الياسمين المزدهر ونبات الآس العطري ونبات العصفر ونبات إكليل الجبل ونبات الناردين مصفوف في أشكال هندسية. ويبدو أن الروائح تستدعي للذاكرة الصورة الأسطورية للقصر وسيطرته على الخيال.

أمينة المعرض هي بينلوب هوبهاوس، إحدى المرجعيات العالمية في الحدائق الفارسية. وقد قُسمت الأفنية إلى أرباع من خلال النوافير الرئيسية. ومن المستهدف أن تثير طريقة الترتيب وشكلها النزعة التأملية لديك، فيما تضفي لمسات فارسية على الفردوس، التي هي، بالطبع، حديقة.

ولذا يوجد هنا أيضا في «الحديقة النباتية» رواق رئيسي طويل لنباتات مستوحاة من رسم بألوان المياه يعود للقرن التاسع عشر. وتخلق صفوف من أشجار السرو الإيطالية حدودا معمارية خضراء بالقرب من النوافذ الزجاجية، ويقوم نبات الآس العطري بحماية أسرة النباتات المزهرة، وتوجد أشياء تذكر بالقناطر في قصر الحمراء التي تظهر في أقصى النهاية، حيث تسمع صوت المياه من نموذج مصغر لإحدى النوافير المصممة على شكل ثقب مفتاح. وجميع النباتات المعروضة مرتبطة بزراعة الحدائق في الأندلس الإسلامية، بجنوب إسبانيا. نعرف من كتاب رائع استشهد به المعرض ويحمل عنوان «الحدائق والمنظر الطبيعي والرؤية في قصور إسبانيا الإسلامية» لفيرتشايلد روغرز، أن حدائق الأندلس اعتمدت على تقنيات الري التي استخدمها الرومان في المنطقة ووسعت نطاق النباتات وجلبت بذورا من مناطق نائية داخل الإمبراطورية الإسلامية وغيرت من المشهد الإسباني. كان من الممكن زراعة شجر التين، الذي نراه هنا، ببذور من آسيا كما حدث مع سابقاتها؛ ربما أخذها الشاعر يحيى الغزال في مجموعة من الكتب من بيزنطة إلى قرطبة في عام 840. وفي القرن العاشر، كما نعرف أيضا، حصل الحاكم عبد الرحمن الأول على رمان هدية من شقيقته، وعلى الرغم من أن الرمان فسد خلال الرحلة من سوريا فإن البذور جرت زراعتها، وفي النهاية أصبحت جزءا «طبيعيا» من جنوب إسبانيا. وربما تستخدم نباتات أزهار دمشق هنا لورد الماء والشاي، لكن يشير الاسم إلى أصولها في دمشق، بسوريا.

النقطة الغامضة هي أنه من المستحيل معرفة ما الذي كان في الحدائق خلال القرن الرابع عشر. لقد تأثر قصر الحمراء نفسه أولا بإقحام فناء واسع يرمز للنهضة الغربية عقب الغزو المسيحي لهذا المعقل الأخير للحكم الإسلامي عام 1492، ومرة أخرى بعد مرور قرن تأثر القصر بسبب انفجار بارود. وفي البداية لم تكن هناك نوافير مياه مثل تلك التي يمكن أن نراها في أحد أفنية قصر الحمراء.

وفي نهاية القرن السابع عشر، كما تشير هوبهاوس في الكتالوغ الخاص بها «كانت الحدائق قد أصبحت مهملة بالكامل». وبعد نشوب نيران في عام 1958 جرى البحث عن «أسكوا كورت»، لتظهر السمات المعمارية الأصلية، لكن لم يجر أي تحليل نباتي لمعرفة الأثر التاريخي لنباتات معينة. وكما يوضح المعرض، فإن بعض النباتات التي تستخدم حاليا في حدائق قصر الحمراء وفي المعرض لم تكن معروفة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. لكن لا يوجد نموذج «أصلي» للحدائق يمكن تصوره أو إعادة تقديمه. وما لدينا هو واقع أجريت عليه تعديلات في عرفان وتقدير للتراث. وتوجد بالتأكيد أوجه تشابه كافية مع حدائق أخرى في بعض سمات التصميم. وفي ذلك فإن حالة الحدائق ليست مثل قصر الحمراء نفسه، الذي يحتوي على مبان أنشئت على مدار القرون، وأجريت عليها الكثير تعديلات من خلال عمليات ترميم وتغيير لاحقة.

لكن لا يتشكل لدينا فهم لكيفية ربط الحدائق من الناحية الجمالية بقصر الحمراء. وبصراحة فإن ذلك خارج إطار المعرض، لكنه يبدو ضروريا في فهم الحدائق. في أجزاء متنوعة من القصر، يوجد منحى مرح في أفكار خاصة بالداخل والخارج. وهذا صحيح بالنسبة لسماء الليل المصورة في «قاعة السفراء»، وفي طريقة تذكير الزينة والتصميمات بالعالم الطبيعي. كما أن النوافذ داخل القصر منتظمة بصورة معينة لتوفير القدرة على رؤية الأماكن المزروعة، مع إتاحة المنطقة التي تتجاوزها، بمنازلها.

وهناك قصد ديني هنا، تلفت النظر إليه فقرات مقتبسة من القرآن، حيث إن خط اليد ممتزج مع الزينة. لكن تظهر لذة دنيوية أيضا، ويتبدى ذلك من خلال شعر يثني على قصر الحمراء وحكامه – وهو أيضا جزء من التصميم الديكوري للقصر. ومما لا شك فيه أنه كان مستهدفا الجمع بين شكلي الإعجاب، فمثلما يبدو فإن الحدائق والأفنية تظهر النظام الرائع للمكان الداخلي في الخارج.

ومن السهل معالجة هذا الإنجاز، وفي الواقع لقد فعل لوركا نفسه ذلك، حيث كان يحب أن يرتدي مثل الموروس داخل قصر الحمراء، في تقدير لماضي إسبانيا قبل المسيحية. وربما كان الشعور بعالم مفقود جزءا من الإعجاب الرومانسي بالقصر أيضا. والآن ينتشر الإغراء في أشكال أخرى، حيث يذكر الكتالوغ «منظورا عالميا» لسبعة قرون من الحكم الإسلامي، على الرغم من أن التاريخ نفسه معقد بدرجة أكبر، حيث يحتوي على فترات فيها إنجازات كبيرة ممتزجة بعصور سادت فيه حروب لا ترحم وقمع واسع النطاق.

كما شهد قصر الحمراء أيضا تمردا واغتيالا. ومما يعقد الأمور بدرجة أكبر، فإن إنجازاته لم تأت في فترة كانت فيها ثقة إسلامية كبيرة، ولكن كانت في فترة تراجع الحقبة، حيث أصبحت غرناطة آخر معقل إسلامي داخل إسبانيا.

لكن في «الحديقة النباتية»، التي هي حاليا أقرب مكان يستطيع معظمنا الوصول منه بسهول إلى العريف، لا توجد أهمية كبيرة للكثير من ذلك. وهناك أيضا تتذكر روائح وأصوات وعلامات هذه الحدائق الإسبانية، وتجد نفسك مستسلما لإغرائها. ويستمر معرض «فردوس الأندلس: حدائق قصر الحمراء» حتى 21 أغسطس (آب) في «الحديقة النباتية بنيويورك».

* خدمة «نيويورك تايمز»