معرض في باريس يكشف أسرار دار نشر فرنسية تصنع النجوم

«غاليمار» تحتفل بمرور 100 عام على تأسيسها

TT

«هل لكم أن تخبروني بقائمة الكتب العظيمة التي لديكم وتمنعكم من نشر كتابي؟»، هكذا كتب الأديب الفرنسي هنري ميشو، مخاطبا المسؤول عن دار «غاليمار» للنشر، في رسالة هي واحدة من الوثائق الكثيرة والمثيرة المعروضة في المكتبة الوطنية في باريس، احتفاء بمرور مائة عام على تأسيس الدار التي يحلم كل كاتب ناشئ بأن يرى اسمه ضمن قائمة مؤلفيها.

يرى زائر البناية التي تشغلها منشورات «غاليمار» في حي «سان جيرمان»، قلب باريس الثقافي، صور مشاهير الروائيين والمؤلفين والشعراء معلقة في المدخل، الأحياء منهم والأموات، الذين حلموا بالخلود. كلهم مروا من هذه البوابة الضيقة للدار العريقة، قبل أن تعانقهم الشهرة، على أمل أن يوافق «الآلهة» الحاكمون فيها على مخطوطاتهم.

لذلك تنشغل الأوساط الثقافية، حاليا، بالذكرى المئوية للدار التي أسسها غاستون غاليمار (1881 - 1975) وأعطاها اسمه، ثم سلمها إلى ولده كلود ومن بعد إلى حفيده أنطوان. وتقام للمناسبة ندوات وحفلات مختلفة، بالإضافة إلى المعرض الموجود في المكتبة الوطنية ويستمر حتى الثالث من يوليو (تموز) المقبل.

وهو ليس معرضا عن «غاليمار» فحسب يكشف الوثائق والمراسلات الخفية التي تبادلها الناشر مع كتاب كانوا مجهولين ثم صاروا نجوما في سماء الأدب، بل هو أيضا معرض عن خفايا مهنة النشر، وعن علاقتها اللدودة مع الرقابة. لقد وجهت جمعية مكافحة الإباحية رسالة إلى صاحب الدار تطالبه فيها بسحب الترجمة الفرنسية لرواية «عشيق الليدي تشاترلي» من المكتبات، لكنه لم يستجب.

بالمناسبة، أيضا، أنتجت القناة التلفزيونية الفرنسية - الألمانية «آرتيه» فيلما وثائقيا عن دار النشر التي ينال مؤلفوها حصة الأسد من الجوائز الأدبية الكبرى. واختار مخرج الفيلم، ويليام كاريل، عنوانا لطيفا له هو «غاليمار، الملك لير»، متلاعبا بلفظة «لير» التي تعني بالفرنسية «قراءة». ويخبرنا الفيلم أن مجموعة من الشباب العاشقين للأدب، قرروا، في العشرية الأُولى من القرن الماضي، تأسيس دار للنشر تحمل اسم «NRF»، مستعيرين الأحرف الثلاثة الأولى من «المجلة الفرنسية الجديدة» التي كان عددها الأول قد صدر قبل سنتين من ذلك التاريخ وسلموا إدارتها إلى زميلهم أندريه جيد (1869 - 1951).

وللعثور على مدير للمشروع، قصدوا زميلا لهم يعشق المسرح والرسم والكتابة يدعى غاستون غاليمار. إنه صديق أندريه جيد منذ سنوات، والاثنان يتحدران من مقاطعة النورماندي حيث تحتفظ عائلة غاليمار بمنزل ريفي قديم على شاطئ «دوفيل».

والأهم من ذلك أن والده، بول غاليمار، رجل ميسور يملك مسرحا للمنوعات ويجمع لوحات الانطباعيين ويعشق الأدب.

تصور جيد ورفاقه أن صديقهم سيكتفي بتمويل مشروعهم ويقبل بأن يكون المدير الاسمي له. لكن غاستون غاليمار، الذي دخل ميدان النشر بمحض المصادفة، نظر إلى الأمر من زاوية أخرى بعيدة عن الارتجال وإصدار الكتب كيفما اتفق. لقد جاء بمجموعة من المتخصصين لكي يضعوا له أساس دار تنشر الكتب مستندة على قاعدتين أساسيتين: الاستقلال المالي والتطلب النوعي في النصوص المنشورة. وفي الحادي والثلاثين من مايو (أيار) 1911 وقع كل من غاليمار وجيد وزميلهما شلومبيرغر عقد تأسيس الدار التي ما زالت تلتزم بمبدأي الاستقلال والنوعية، إلى حد كبير، حتى اليوم، بعد مرور قرن من الزمان على تلك المغامرة المحسوبة، وبعد أن وصل عدد العاملين فيها لـ1300 موظف، وبلغت مبيعاتها السنوية نحو 300 مليون يورو.

إنها الدار التي تنشر 900 عنوان جديد في السنة. وقد ولدت كبيرة لأن كاتبا مثل مارسيل بروست (1871 - 1922)، أعلن في عام 1913، وكان عمر منشورات «غاليمار» سنتين فحسب، أنه لن ينشر مخطوطة كتابه الأشهر «في البحث عن الزمن المفقود» إلا فيها. لكن الدار الناشئة اقترفت خطأ في تقديراتها حين رفضت المجلد الأول من الكتاب. لقد تصفح جان شلومبيرغر، أحد المؤسسين الثلاثة، المخطوطة الضخمة، ونصح بعدم النشر. لقد اعتبر أن «بروست يرتاد المجتمعات الراقية ويلتزم سلوكا اجتماعيا وأخلاقيا وجماليا لا يتناسب وخط الدار».

وكتب أندريه جيد في تبرير الرفض يقول: «إنه كتاب مليء بالدوقات وليس لنا». واضطر بروست لإعطاء روايته إلى برنار غراسيه، غريم غاليمار وصاحب دار النشر المنافسة له، لكي تطبعه على نفقة المؤلف. وكان على الكاتب الكبير أن ينتظر ست سنوات حتى رأى كتابه منشورا تحت شعار الدار. لقد أدرك القائمون عليها هفوتهم الكبيرة، وكان لا بد من «استعادة» بروست وقطع صلته بمنشورات «غراسيه» لكي ينشروا له القسم الثاني من كتابه، الذي صدر بعنوان «في ظل الفتيات بالأزهار»، عام 1918، أي بعد ست سنوات من رفضهم له.

ولم يخيب بروست آمال ناشره الجديد، حيث نال كتابه جائزة «غونكور» الرفيعة، في العام التالي.

من هفوات الدار، أيضا، أن القائمين عليها رفضوا كتبا لأديب فرنسا الكبير لوي فردينان سيلين (1894 - 1961). وكان سيلين قد بعث إلى «غاليمار» مخطوطة لرواية مع رسالة يقول فيها: «الرجاء عدم إفشاء الفكرة لأن هذه الرواية ستكون كتاب القرن وستأتي لكم بجائزة (غونكور) جالسة على أريكة». ولم يكن الكاتب مخطئا في تقديراته لكن الجائزة ذهبت إلى رواية أخرى، بفارق صوتين من أصوات لجنة التحكيم.

لم يتحمس المشرفون على «غاليمار» لنشر الترجمة الفرنسية لرواية «ذهب مع الريح»، ولم يكن اسم المؤلفة مارغريت ميتشل يعني لهم شيئا ولم تصلهم، بعد، أصداء النجاح المدوي للرواية في أميركا. وعندما جاءت الأخبار، أمضوا فترة طويلة في البحث عن عنوان للطبعة الفرنسية يكون أقوى من العنوان الأصلي. ومن بين ستة عناوين مقترحة اختاروا ما معناه «كل ما حملته الريح».

يشاهد زائر المعرض رسالة من الشاعر المتعدد المواهب جان كوكتو (1889 - 1963)، يطالب فيها ناشره بأن يدفع له مستحقاته. كما يقرأ أطول عبارة إهداء كان قد كتبها مارسيل بيناك إلى كلود غاليمار. وهناك أيضا مختارات لصفحات بخط أصحابها من أشهر الروايات التي أصدرتها الدار وصارت خطوطها الأصلية وتواقيع أصحابها تباع في المزادات. ومن هؤلاء بول فاليري وسانت إكزوبيري وجان بول سارتر وأندريه مالرو.

هذا فضلا عن كبار الكتاب الأجانب الذين نشرت الطبعات الفرنسية لكتبهم، أمثال فولكنر وهمنغواي وماركيز وبيرانديلو وكافكا ونابوكوف وأمادو وجويس وبرنانو. وكثيرون منهم حازوا «نوبل». وبفضل هؤلاء، أنشأت دار «غاليمار» سلسلة «مكتبة البلياد» المتخصصة في جمع الأعمال الكاملة للخالدين من أهل الأدب والفكر.