تونس: «خربشات الشارع».. مواقف سياسية واجتماعية

الكتابة على الجدران تعود إلى عهود الاحتلال الفرنسي

كانت تلك الخربشات في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ممنوعة تماما على الشباب («الشرق الأوسط»)
TT

تترجم الكتابات الحائطية الكثير مما يعتمل في داخل التونسيين، وبخاصة الفئات الشبابية، فقد التجأت في فترة الثورة إلى ما بات يعرف بـ«الخربشات الحائطية» للتعبير عن آرائهم السياسية والاجتماعية.

ولم تعد تلك الكتابات العفوية ذات طابع عفوي في الفترة الأخيرة؛ فقد أصبحت مضمنة بكثير من المواقف مما يحدث على الساحة السياسية التونسية. وكانت تلك الخربشات في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ممنوعة تماما على الشباب؛ إلا أن الكثير منهم، وبخاصة من المنتسبين إلى الحركات السياسية المحظورة من اليمين واليسار، كان يلجأ إلى الحوائط للتعبير عن معارضتها لنظام إدارة البلاد، والغريب أنه لا تمضي سوى فترة زمنية وجيزة حتى تجد عمال البلدية والمنتسبين إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، الحاكم، قد أزالوا كل شيء وجلبوا الدهان وأزالوا كل أثر لعبارات كانت مناوئة للسلطة.

خلال هذه الفترة وما بعد ثورة 14 يناير (كانون الثاني) واصل الشباب التعبير عن آرائهم في مختلف المسائل السياسية وتدخلوا في تعيينات الحكومة؛ من قبيل الموافقة على تعيين شخص ما في إحدى الوزارات أو لمعارضة بعض قرارات حكومة الباجي قائد السبسي. ولم تسلم من ذلك حتى الأحزاب السياسية المختلفة فقد نالت نصيبها من النقد. واعتبر الكثير من الشباب التونسي الكتابة على الجدران بمثابة الفعل المقاوم أو النشاط السياسي المؤثر على الرأي العام.

ولا تعد الكتابة على الجدران في تونس مسألة حديثة، فجذورها تعود إلى العهود الاستعمارية خلال احتلال فرنسا لتونس، حيث كانت حركة التحرير التونسية بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة تلجأ إلى مثل تلك الوسائل التي أثبتت فعاليتها في تأجيج الصراع مع المستعمر، وكانت المجموعة التي تنفذ تلك الكتابات قد عرضت نفسها إلى الاعتقال أو الموت. وتشير بعض وثائق الشرطة الاستعمارية في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من سنة 1939، حسب ما جاء في كتاب «تاريخ الحركة الوطنية التونسية وثائق 7: خمس سنوات من المقاومة»، إلى أن مجموعة من الشعارات الثورية قد كتبت على جدران مدن تونس العاصمة وبنزرت (شمال تونس)، وهي في الغالب تستفز الفرنسيين وتدعوهم إلى مغادرة البلاد. وكانت السلطات الاستعمارية تعتبرها أعمالا عدائية، وكان زعماء الحركة الوطنية يمررون مطالبهم عبرها من قبيل «أطلقوا سراح المعتقلين والزعماء»، و«يحيا الدستور»، و«يحيا بورقيبة»، و«نريد برلمانا تونسيا».

وإذا عدنا إلى وضع الشارع التونسي بعد الثورة، فإن الكتابة على الحوائط كانت في معظمها تستهدف محطات الحافلات والمترو الخفيف والشوارع والميادين الهامة وسط العاصمة التونسية، بما يوحي بأن العملية منظمة في معظم ردهاتها وهي قد تعكس تحركات بعض الأحزاب السياسية التي أصبح الشارع هو محور اهتمامها بعد أن سيطر نظام بن علي على كل مساحات التعبير وفضاءاته واحتكرها بالكامل لنفسه.

ولا تزال تلك الخربشات تتعرض إلى بعض المسائل الخلافية في الحياة السياسية التونسية على غرار الحجاب والنقاب، وكذلك شتم حزب بن علي وعائلة الطرابلسية (نسبة إلى ليلى الطرابلسي زوجة بن علي) والمناداة بحل البوليس السياسي ومحاكمة رموز النظام السابق. وقد تراوحت بعض الخربشات بين الفعل الثوري المقاوم للحكومة المؤقتة والسلطة القائمة، والعمل الإبداعي الصرف، وهي في كل الحالات تبقى قابلة للقراءة السياسية في المقام الأول ثم للقراءة من الناحية النفسية والاجتماعية كذلك، وهي في كل الحالات ليست عملية بريئة كما يتبادر إلى ظننا.

عن تلك الخربشات قالت منيرة الرزقي (مختصة في علم الاجتماع) إن العملية قد تخفي وراءها عجزا ظرفيا عن التحاور وعن إيصال الصوت إلى من يهمه الأمر. صحيح أن الثورة في تونس أطاحت برموز النظام، ولكن الفئات الشبابية التي قادت تلك الثورة لديها إحساس بأن معظم ما انتظرته من عملية الإطاحة بنظام بن علي ما زال بعيد المنال. واعتبرت الرزقي المسألة خطيرة بعض الشيء بالنسبة للسلطات القائمة، فهي قد تخفي حوارا بين الطرفين وعلى السلطة أن تقرأ ما بين السطور.

ولاحظ الإعلامي التونسي، ناجي العباسي، من ناحيته، أن تطورا قد حصل خلال الفترة الماضية على ما كتب على الجدران، وذلك من خلال متابعته لما يكتب، ففي البداية كان اسم محمد البوعزيزي، مؤجج الثورة، طاغيا والدعوة إلى محاكمة رموز الفساد باختلاف مستوياتهم، ثم تطور الأمر إلى دعوات إسقاط الحكومة المؤقتة، ليستقر الأمر في النهاية على مجموعة من المطالب السياسية والاجتماعية التي لا تزال معلقة وتنتظر الحلول العاجلة. وتابع العباسي: «يجب الانتباه إلى محتوى تلك الخربشات، فقد تكون تخفي غضبا من أداء الحكومة والأحزاب، وقد تخفي وراءها ما يريده الرأي العام، إلا أنها تخفي في نهاية المطاف أن الطرق التقليدية للتعبير عن الرأي قد أصبحت ضيقة ولا تحتمل كل الأفكار، وهذا معطى قد يكون خطيرا على المستوى السياسي والإعلامي».