«لقاء».. المركز العالمي لحوار الحضارات يتحدى مقولة «صراع الحضارات»

يرسخ العيش المشترك كخيار وحيد لكل الشعوب العربية

المركز العالمي لحوار الحضارات «لقاء»
TT

على هضبة مطلة على البحر الأبيض المتوسط في منطقة الربوة في المتن، مساحتها 10 آلاف متر مربع، يقبع المركز العالمي لحوار الحضارات بطوابقه الـ4، ضمن مجمع البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك.

«إنه حوار معماري يحاكي عنوان (حوار الحضارات)، حاملا اسم (لقاء)»، يؤكد لحام في حوار مع «الشرق الأوسط»، مشددا على أن «المركز يصب في خدمة أجمل قيمة في العالم: التلاقي، وهو تحقيق لرسالة السيد المسيح، الذي أتى ليجمع أبناء الله المتفرقين في واحد، وفيه تجسيد لمقولة القرآن: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، ولمقولة يوحنا الإنجيلي: (إن الكلمة صارت جسدا)».

ويشير لحام إلى السعي الدائم، نحو تجسيد هذه القيم الروحانية الإيمانية الإنسانية، والطموح لأن يكون «لقاء» مرآة تعكس حقيقة لقاء المسيحية والإسلام على مدى 1430 سنة، تمازجت وتزاوجت فيها الحضارة المسيحية والإسلامية بطريقة فريدة في العالم العربي.

ويرى بطريرك الروم الكاثوليك أننا اليوم بحاجة إلى اللقاء، في عالم يراد له أن يكون «عالم صراع الحضارات»، وأن تكون الألفية الثالثة ألفية الصراعات، لافتا إلى أن اللقاء هو فعل إيمان بالله والإنسان، واللقاء والحوار والتلاقي والتضامن والتعاون بين الديانات والحضارات والثقافات.. فعل إيمان أمام أجيالنا الشابة المعرضة أكثر من غيرها، ومن دون رقيب، لأخطار الصراعات والتعصب والأصولية والفردية والعنف والإرهاب ومنطق القوة والحرب.

وحول سبب اختيار لبنان لإقامة هذا المركز، يشير لحام إلى أن المركز دلالة على أهمية لبنان في إعطاء نموذج مميز للعيش المشترك، الذي هو الخيار الوحيد لنا ولكل البلاد العربية.. هو خدمة لقيم العدل والمصالحة والسلام والأمن والاستقرار في المنطقة، وهذا هو مستقبلها الوحيد، وهو دحض وتحد كبير لمقولة «صراع الحضارات»، في خضم الصراعات المحلية والعربية والعالمية.

«التصميم ثلاثي الأبعاد، ضمن ملامح وتفاصيل معمارية تقليدية، مستوحاة من قيم تراثية، تشبه بأشكالها وأقواسها ونمنماتها العمارة العربية الأصيلة، أما الحركة الداخلية فتتم عبر سلالم، و4 مصاعد كهربائية، ومدخلين مستقلين، مع ردهات استقبال خاصة»، يوضح منفذ الشروع، المهندس إيلي أبو حلا.

ويضيف: «رأينا أن تعكس الهندسة الخارجية روح المشروع المتعدد الأنشطة، من حيث توافر تجهيزات تضاهي حداثة العرب، لبناء وجه ثقافي متجدد، بينما حرصنا داخليا على توفير مكان مريح يرسي فكرة سلام النفس العربية الطيبة، وبنية لفكر تعددي لدى شبابنا العربي، ليصبحوا شركاء أساسيين في تقدم الحضارة العالمية، استعادة لدورنا القديم/ الجديد في العطاء الحضاري».

أما واجهاته فقد نفذت بمواد عصرية أنيقة، منها العناصر المعمارية الثابتة، كحواجب الشمس، والتهوية الطبيعية، والقباب الزجاجية العاكسة، في حين أن فلسفته الهندسية تجمع ما بين الشرقي والغربي لمواجهة التحديات المستقبلية، كي يحافظ على شعاره «بناء جسور في عالم منقسم».

وانتقالا إلى الحركة التشغيلية للمساحات الداخلية المتخصصة، والبالغة 8000 متر مربع، فهي تشكل دليلا على أن «لقاء» هو مشروع رائد لخدمات متعددة، توفرها أقسام 4 رئيسية على مدار السنة، وهي عبارة عن مركز دولي للأبحاث الدينية والمشرقية مع مكتبة إلكترونية ذات طابع عالمي ومركز توثيقي للدراسات الإسلامية والمسيحية ومكتبة متخصصة بالوثائق والمخطوطات والأصول التاريخية، ومحترف لترميم المخطوطات.

واللافت أثناء تجولك داخل المركز أنه أصبح غنيا بآلاف المخطوطات العربية واليونانية والبيزنطية والسريانية التي تم نقلها من الكنيسة الكاثوليكية؛ بعضها بحاجة إلى ترميم.

قاعة المسرح التي تتسع لألف شخص مع كل التجهيزات السمعية والبصرية والمدعمة بوسائل للترجمة الفورية تستوقفك أيضا مع شاشات العرض للتواصل الفوري للمعلومات مع مراكز الأبحاث الخارجية.

وانتقالا إلى صالة الاستقبال الكبرى، فهي تتسع لـ800 شخص ومخصصة للقاءات الرسمية الكبرى ومجهزة بكافة الوسائل الحديثة، بالإضافة إلى جناح ضيافة وإقامة لكبار الزوار ويحوي 36 غرفة مع أقسام خدمة من مطابخ وغرف طعام.

الشباب العالمي والعربي له أجنحته الخاصة من أجل اختبار الحياة المشتركة ميدانيا وبجانبها مركز لإدارة المعلومات والوثائق. أهداف المركز كثيرة، بحسب المنسق العام للمركز، الأب الدكتور ميشال سبع، وأهمها: توفير ظروف التلاقي والحوار وتعزيزها بين مناطق العالم في لبنان، وتخطي الأحكام المسبقة، والعمل لفهم الآخر وقبوله وملاقاته في منتصف الطريق، وكذلك تبادل الأفكار والمبادئ، وتفعيل جسور التواصل بين حضارات الشرق والغرب والمسيحية والإسلام، من أجل إعطاء شهادة تعايش حقيقي بين المعتقدات والطوائف في الشرق الأوسط.

كما يشكل المركز واحة فكرية لتبادل البحوث العلمية والأكاديمية، وإقامة المحاضرات والندوات، والسعي الدائم إلى الوحدة بين الطوائف المسيحية، بغية مساعدة الغرب على فهم خصوصيات العالم الإسلامي وحضارته، والبحث عن سبيل العيش في سلام وتسامح متبادلين.

أما النشاطات المقررة فهي تنظيم محاضرات ولقاءات واجتماعات على المستويين المحلي والعالمي، وإقامة مخيمات صيفية للشباب محليا وعالميا، للتعرف على ثقافة الآخر وطرق عيشه وتفكيره، وفتح مجال أبحاث الطلاب من دول مختلفة.

«كل ذلك سيكون ضمن خطة خمسية، تبدأ في عام 2012 وعلى 3 مسارات، ونحن حريصون على تأمين فرص عمل لعشرات الشباب اللبنانيين في مركزنا»، يقول سبع.

ولا يكتمل المشهد الحواري، دون التعاون مع الأكاديميين والباحثين في مراكز البحوث والجامعات العالمية، وإطلاق «ندوة الكتاب» من خلال الاطلاع والبحث والنقاش التفاعلي، وإقامة دورات تثقيفية متطورة ومتخصصة في مجالات الحوار والدين والتبادل الفكري، تكون متاحة لجميع الزائرين، شأنها شأن الرياضات الروحية.

فكرة إقامة المركز تعود للبطريرك لحام، الذي كان قد أطلقها في بداية تسلمه للسدة البطريركية عام 2000، بعدها حظي تجسيدها بتشجيع ودعم من السلطان قابوس بن سعيد، أثناء الزيارة الرسمية، التي قام بها لحام على رأس وفد إلى سلطنة عمان في أبريل (نيسان) 2006.

ويعتبر لحام قرار السلطان قابوس بإقامة المركز علامة ثقة بالكنيسة وبرسالتها، آملا أن يكون هذا المشروع رمزا للتعاون بين السلطنة ولبنان.