بئر «بروطة» في القيروان: قصة النظافة والحياة في التاريخ والواقع

جمال حسنات لـ«الشرق الأوسط»: ذبح «جمل بروطة» بعد الهرم لم يعد معمولا به

تقليد عريق في «بروطة»، يُضرب به المثل في تونس؛ فيقال: «مثل جمل بروطة يدخل حوارا (صغير الجمل) ويخرج أطباقا» (أي أنه يُذبح ويقدم كوجبات)
TT

«بروطة»، اسم أشهر من علم، ليس في مدينة القيروان، تلك المدينة الإسلامية الشهيرة التي تعد أول حاضرة إسلامية في المغرب الإسلامي الكبير، بل في أفريقيا قاطبة فحسب، ولكن في تونس ودول الجوار، والدول العربية، بل العالم. إذ لا يمكن لزائر لمدينة القيروان أن يعود أدراجه دون أن يشرب من ماء بروطة، التي تعود إلى بداية الفتح الإسلامي للمنطقة سنة 50هـ.

وتروى في هذا السياق الكثير من القصص، منها أن بروطة هو اسم السلوقية، التي عادت إلى جيش الفتح ورجلاها مبللتان بالطين، وكانت تبحث عن الماء؛ فعمقت تلك العين في ذلك المكان الذي كان قاحلا، وأطلق اسم بروطة عليها. وهناك تفسيرات أخرى لكنها لا تستقيم إذا وضعنا في الاعتبار الظرف الزماني، حيث لم تظهر اللهجة التونسية برطنها الحالي إلا بعد وقت طويل من الوجود الإسلامي في المنطقة.

في قلب المدينة، ووسط عدد من المباني التراثية، تنتصب بروطة، بجمالها التاريخي الأخاذ وسط عاصمة الأغالبة التي كانت في يوم الأيام قبلة ورمزا لأشياء كثيرة، كما هو الحال اليوم عند الحديث عن واشنطن وموسكو وباريس وبرلين ولندن، بل أشد هيبة.

ومع ذلك، تبقى القيروان رمزا حضاريا عظيما، حتى إن البعض دعا لاتخاذها عاصمة لتونس مجددا؛ فعندما أهدى إبراهيم ابن الأغلب ساعة لملك فرنسا شارلمان ارتعدت منها فرائص الأخير، وظن أنها جان.

كانت حركة الصعود والنزول من بروطة تسير بوتيرة متصاعدة في ذلك الصباح القيرواني الباسم، ونسائم التاريخ تعبق حول المكان، بينما كانت درجة الحرارة تنحو للارتفاع، لكنها لم تدفع أحدا للتخلي عن ملابسه السميكة نوعا ما.. مواطنون وسياح من دول عربية وأوروبية يعبرون المدرج ذهابا وإيابا، في حين كانت أعيننا مشدوهة لذلك المعلم الذي ندخله لأول مرة بعد أكثر من 20 سنة. كانت تحية «السلام عليكم» متفشية في المكان، حتى الأجانب يقلدون المسلمين كعادتهم عندما يريدون التقرب، وهي لفتة حميدة على كل حال.

صعدنا المدرج ورائحة البخور تضفي أجواء إضافية من الإجلال، وتذكرنا، كيف كان البعض يخلع نعليه عندما يصبح على مشارف القيروان، كما كان يفعل مالك في المدينة المنورة، ولنفس الأسباب؛ فعلى هذا الأديم سارت قوافل الصحابة تنشر الدين الحنيف في الآفاق ليصل صقلية وجنوب فرنسا ويعمر 8 قرون في إسبانيا، ولم يغب عنها حتى اليوم.

ها نحن نصل لصحن بروطة، أو سطحها.. هنا تقليد متوارث منذ مئات السنين، جمل يدور حول البئر، وقد ربطت جرار (جمع جرة) حول عجلة أو أسطوانة، وعندما يدور الجمل تغرف الجرار الماء وتصبه في بعضها، ويؤخذ منها فيصب في آنية كبيرة يشرب منها الزوار، وككل ماء يرغب في شربه، فإن المرويات الشعبية تؤكد أن من شرب من بروطة يعود إليها في صحة جيدة وحال أفضل، ويقال أيضا إن فيه شفاء للإمساك، ولكبار السن.

الزوار المحليون الذين التقتهم «الشرق الأوسط»، أكدوا أنهم يأتون لبروطة «للترفيه»، وبعضهم، كالعم ناصر، قال: «كلما ضاقت بي الدنيا آتي إلى بروطة؛ فأشعر بالارتياح»، وتابع: «لا أربط ذلك باعتقادي الجازم بأن الله هو مفرج الهموم، ولا بقوة خارقة لبروطة، ولكن بشيء بيني وبين الرب».

في ركن قريب كان المسؤول عن بروطة، سي جمال حسنات (سي كلمة تونسية تنم عن الاحترام)، يراقب الوضع عن كثب، وقد طلب من سائس الجمل أن يساعدنا لالتقاط الصور بكل ترحاب وأريحية، وقد أعرب عن استيائه من قلة الزوار على كثرتهم: «لا ينقطع سيل الزوار، سواء من مدينة القيروان، أو محافظات تونس، وكذلك من الخارج، ولكن في الأشهر الأخيرة قل عدد الزوار، وتحديدا بعد قيام الثورة»، وعن الأماكن التي يأتي منها الزوار، أشار إلى أنهم «من أوروبا، وخاصة الفرنسيين والألمان، ويكثر التونسيون في أيام العطل، ومن الدول العربية، الأشقاء من دول الخليج، وكذلك من دول الجوار؛ الجزائر والمغرب وليبيا» وأكد سي جمال، ما يتناقله الناس من أن «ماء بروطة مبارك، وبعض الناس يأتي لعدة أيام، ولثلاث أو أربع مرات في اليوم الواحد، ويؤكدون على أنهم يشعرون بالارتياح عندما يشربون الماء من بروطة» وعما إذا كان ماء بروطة يتداوى به، أو يستخدم لمعالجة الأمراض النفسية أو العضوية، قال: «ربما تكون الأمراض النفسية أكثر؛ لأن معالجتها تقتضي إيمان المريض بفعالية العلاج، لكن من الأمراض العضوية التي تعالج بماء بروطة الإمساك».

مما يسترعي الانتباه، تقليد عريق في بروطة، يضرب به المثل في تونس؛ فيقال: «مثل (جمل بروطة) يدخل حوارا (صغير الجمل يسمى حوارا وهبعا وفطيما ومخلولا ومفرودا) ويخرج أطباقا»؛ أي أنه يذبح ويقدم كوجبة.

وقد عرفنا من سي جمال أن ذلك التقليد لم يعد موجودا: «في الماضي البعيد كان الأمر كذلك، ولكننا قمنا بتهيئة المكان بما يسمح بإخراج الجمل من المكان الذي كان ضيقا، فيربى الهبع في الموقع وهو صغير، وعندما يكبر يتم ترويضه على الدوران، ثم يذبح عندما يكبر، ويباع لحمه، أما اليوم فالجمل يعمل دورتين ثم يذهب للعلف والراحة ويعود بعد ثلاث ساعات لاستئناف العمل، وهذه من شروط العقد، مع مصلحة المحافظة على التراث»، وذكر أنه «في خلال الـ12 سنة الماضية، تم استبدال ما لا يقل عن ثلاثة جمال»، وعن مصير الجمل بعد التسريح من الخدمة أفاد بقوله: «نبيعه أو نستبدله، والجمل الذي يخرج من هنا يتأقلم مع محيطه الجديد، بينما الذي يتم جلبه يحتاج لبعض الوقت ليتأقلم مع دوره».

وعن الجمل الذي يقوم بدور «الساقي»، أكد أنه في سن الثامنة، ولم يتجاوز العام في بروطة، وقد أصبح هادئا». وعما إذا كان بالإمكان استخدام ناقة، أوضح أن «التقاليد دأبت على استخدام الجمال، ولا أدري الأسباب». ونفى بشدة إمكانية تعبئة ماء بروطة في قوارير بغرض التجارة، «هذا الأمر ليس للبيع ولا الشراء، هو معلم تاريخي وسبيل».

وفي نفس صحن بروطة، ارتشفنا ما يطلق عليها في تونس «القهوة العربي»، وكانت ألذ قهوة شربتها في حياتي، وربما يعد التونسيون الوحيدين في العالم الذين يشربون القهوة مخللة بماء الزهر، فتزداد طيبا، وتزداد مذاقا رائعا.

أسئلة كثيرة تركتها زيارة بروطة في الذهن، ومن بينها: ما سر ولع «المسلمين» بالماء، حتى جعلت النوافير من مميزات الكثير من المساجد؟ وما علاقة ذلك بواقع الكثير من المسلمين و«خصامهم» مع الماء، وما يرمز إليه من نظافة حسية ومعنوية ووجدانية؟!