مدينة كوبلنز تتحول إلى «شدة ورد» على ضفتي الراين

600 ألف زهرة في معرض الحدائق الألماني «بوغا»

الحملات الصليبية في القرون الوسطى جلبت 300 نوع من الزهور غير المعروفة للأوروبيين، وقد تم تجميع الحدائق على ضفة الراين بالطريقة الأندلسية
TT

قبل نحو 180 سنة من الآن كتب الشاعر الألماني الرومانسي الشهير هاينريش هاينه: «أتغير بين الزهور، بل وأتفتح معها أيضا». وعلى هذا الأساس صاغت مدينة كوبلنز شعار معرض الحدائق الألماني «بوغا»: كوبلنز تتغير.

ومن يزر «بوغا 2011» فسيلاحظ بالتأكيد أن مدينة كوبلنز قد تغيرت فعلا، وأنها قد ازدانت بالحدائق والزهور، بعد الأعمال الشاقة التي حولت كورنيشها على الراين إلى ورشة عمل طوال 3 سنوات. فالأعمال التحضيرية الأولية في بوغا 2011 بدأت عام 2006 بعد أن كان اختيار كوبلنز قد وقع في عام 2002.

وكوبلنز لم تتغير بسبب حدائق وبساتين البوغا التي غطت عدة هكتارات من الأرض في أجمل مناطق ولاية رينانيا البلاتينية، وإنما بفضل البرنامج المتكامل الذي منحها وجهها البيئي الجديد. إذ تم تجديد وزراعة كل حدائق المدينة وشوارعها، وشارك أهالي المدنية في تزيين بلكوناتهم وشبابيكهم وسقوفهم بالزهور الملونة، وتحولت المدينة بأكملها إلى لوحة ملونة من لوحات رامبراندت.

وكوبلنز تغيرت بسبب هذا العدد الهائل من الزوار الذي احتشد في منطقة البوغا وداخل مطاعم وشوارع المدينة. وهم زوار من كافة أنحاء ألمانيا والمناطق القريبة من بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ الذين اجتذبهم شذى الزهور من بعد. إذ من المنتظر أن يصل عدد الزوار إلى المعرض إلى أكثر من مليوني زائر، وأن يعوض ذلك تكلفة بناء الحدائق والبساتين وزراعتها التي ارتفعت إلى 102 مليون يورو.

ولم يكن اختيار كوبلنز عبثا، لأنها تقع في منطقة حوض الراين الذي تتعامل معه منظمة اليونسكو كإرث لكامل البشرية. وفي كوبلنز يلتقي نهر الراين العظيم بأخيه الصغير نهر الموزل، ليواصلا رحلتهما إلى المصب في روتردام عند بحر الشمال في هولندا. ويعتبر كورنيش كوبلنز على الراين من أجمل شوارع المدن في ألمانيا، في حين يطلق على شاطئ نهر الموزل المدرج بمزارع العنب اسم «شارع العنب» الذي يحظى بشهرة كبيرة في أوروبا.

وعند ملتقى النهرين في «المثلث الألماني» ينتصب نصب الملك البروسي فيلهلم الأول الهائل على حصانه وهو يوصي الألمان: «لا يمكن للأمة أن تتحطم طالما بقينا موحدين وبقينا مخلصين لها». وهنا يختلط ماء الموزل البطيء نسبيا بمجرى الراين السريع ويمكن للزائر أن يلاحظ الخط الفاصل بين المجريين على جانب الموزل.

تم اختيار هذه المنطقة بالذات لبناء حدائق وبساتين البوغا 2011. وتمتد هذه الحدائق بين المثلث الألماني والقصر الملكي على الراين، الذي يعود إلى العصر الباروكي، والقلعة القديمة على الضفة المقابلة من نهر الراين. وتمتد حدائق البوغا على مساحة 8,6 هكتار بين ضفة الراين والقصر (بضمنها حديقة القصر)، تضاف إليها 2,2 هكتار من أحواض الزهور الممتدة بين المثلث وضفة نهر الموزل، عدا عن عدة هكتارات أخرى على الضفة الأخرى وتبدأ من القلعة القديمة.

والقصر الباروكي من أعمال المهندس المعماري البروسي بيتر جوزيف الذي منح القصر حدائق واسعة، وقابلة للتوسيع عند الحاجة، وهو ما فعله منظمو البوغا هذا العام حينما حولوا حدائق القصر إلى بستان واحد كبير. ولأن القصر فرنسي (يعود إلى فترة الاحتلال البونابرتي) فقد تم تخصيصه لمعرض الحديقة الفرنسية، حيث تمتد أحواض الزهور بشكل متناسق على نمط تفكير ملوك فرنسا في تلك الحقبة. في حين تم تخصص القلعة القديمة لتحتوي الحدائق الإنجليزية، حيث تذكر الحدائق هنا بالريف الإنجليزي الهادئ وبالنمو «الطبيعي» للزهور والنباتات.

ولأن الحملات الصليبية في القرون الوسطى جلبت 300 نوع من الزهور غير المعروفة للأوروبيين، فقد تم تجميع الحدائق على ضفة الراين بالطريقة الأندلسية. وتم هنا الجمع بين العناصر الموريسكية المعروفة وهي النبات وجداول المياه والنافورات. هذا عدا عن كم هائل من التماثيل الحديثة والقديمة التي تلائم موضوعات كل الحديقة، سواء تلك التي تعود إلى القرن التاسع عشر، أو التي تعود إلى القرن الحادي والعشرين منها.

وطبيعي فأمام الزائر العديد من خيارات النقل التي تفتح أمامه جنات الراين في منطقة اليونسكو. بإمكانه أن يستقل القوارب السياحية الأنيقة التي تنطلق من روتردام إلى كونستناس (سويسرا) أو أن يكتفي برحلة أقصر بين كولون وماينز. يمكنه أيضا أن يستأجر سيارة ليجوب المنطقة متنقلا يوميا بين قلاعها ومدنها العريقة أو أن يستقل القطارات العديدة التي تربط كولون بفرانكفورت. وللعلم فقد بنت دائرة السكك خطوطها هنا على ضفاف النهر، فيسير القطار ويتلوى بين الجبال والصخور مثل النهر وتجبر المشاهد الخلابة الناس على التخلي عن كتبهم وكومبيوتراتهم وأحاديثهم للتمتع بها.

وتنتشر نحو 50 قلعة تاريخية في منطقة وسط حوض الراين التي تمتد لنحو 50 كلم، وهي أكبر كثافة من القلاع التاريخية في العالم. ويعود معظم هذه القلاع إلى القرون وعصر النبلاء، وتحول معظمها اليوم إلى فنادق فاخرة وبيوت شباب ومطاعم ومنتجعات، وبقي البعض منها أطلالا يزورها السياح ويتمتعون بتصوير دواخلها. وأقيم معظم هذه القلاع على التلال الصخرية العالية فتبدو معلقة في الهواء لمن يشاهدها من باخرة في النهر. ولعل أشهر قلعة في المنطقة هي القصر الملكي في شباير، ثم قلعة «بورغ كاتس» الكبيرة التي تقابلها في الجانب الآخر من منعطف النهر قلعة «بورغ ماوس» فتبدوان كأنهما في معركة أزلية بين القط والفأر. ويقال إن اسم «قلعة القط» يعود إلى عائلة النبلاء كاتزنلينبوغن التي بنت هذا القصر في القرن الرابع عشر، أما اسم «قلعة الفأر» فيعود إلى صغر القلعة وانخفاض مستواها عن مستوى قلعة القط.

كما قلنا فإن الانتقال من المثلث الألماني، عند التقاء الراين مع الموزل، يجري بعدة طرق، ولكن أجملها وأحدثها هو الانتقال بالتليفريك مباشرة إلى أعلى القلعة. ولهذا التيليفريك قصة أيضا، إذ إن بناءه خصيصا لمعرض بوغا لم يتم إلا بعد موافقة اليونسكو واعترافها بأنه لن يؤثر على جمال المنطقة وتاريخها. ومعروف أن اليونسكو تحظر على الألمان بناء الجسور في هذه المنطقة بغية المحافظة على جمال المنطقة التاريخي. بل إنها ترفض بإصرار إعادة بناء جسر ريماغن على الراين، وهو الجسر الذي استخدمه الحلفاء في العبور إلى الضفة الشرقية من النهر خلال الحرب العالمية الثانية.

يرتفع التيليفريك في هذه المنطقة إلى 112 مترا وهو ما يتيح للزائر إلقاء نظرة شاملة على نهري الراين والموزل والمثلث الألماني. ويتحرك التيليفريك بين المثلث والقلعة القديمة بلا توقف، وهناك 180 كابينة تتولى نقل الزوار إلى حديقة القرن التاسع عشر خلف القلعة. ويمكن للتليفريك أن ينقل 3000 شخص بشكل اعتيادي في الأيام الاعتيادية وترتفع طاقته إلى 7600 في أيام الزحام (نهاية الأسبوع). تتحرك الكابينات بسرعة 5,5 متر في الثانية ويسهر جيش من التقنيين والحراس على رعايته وتدقيق مفاصله كل مساء.

الظاهر أن المعرض سيجتذب أكثر من مليوني شخص هذا العام لأن المعرض أجرى استفتاء يوم الخميس الماضي وكان الزائر رقم 555555 بين من جرى استطلاع رأيهم. واعترف هذا الزائر، وتؤيده نسبة 23 في المائة، أنه يزور المعرض للمرة الثانية وأنه يشعر بأن لم يشبع بعد من رؤية الزهور وشمها. وقالت نسبة 38 في المائة إنهم يودون «تكرار الفعلة» وزيارة المعرض مجددا، علما أن 39 في المائة فقط من زوار المعرض كانوا من ولاية رينانيا البلاتينية التي تحتضن البوغا هذا العام. ورغبة من الزوار في منح المعرض وجها بيئيا فقد قالت نسبة 21 في المائة من الزوار إنهم تركوا سياراتهم في البيت واستخدموا وسائط النقل العامة في الوصول إلى معرض الحدائق الاتحادي.

ومن يشعر بالتعب بعد الزيارة الطويلة في البوغا يستطيع أن يقتعد مئات المناطق الجميلة بين الزهور كي يتمتع بسندوتش أو بزجاجة مرطب، أو أن يدخل إلى واحد من عشرات المطاعم التي تنتشر في المنطقة، وخصوصا القريب منها من التقاء النهرين عند المثلث الألماني، فهنا تنفتح شهية الزائر للأكل على خرير نهر الراين الذي «يلتهم» مياه شقيقه الأصغر بنهم.

وطبيعي تتفتح الزهور وتنمو وهي تستمع إلى موسيقى موزارت، كما تكشف ذلك الدراسات العلمية، ولهذا فإن أيام العرض الـ185 ستكون حافلة بالموسيقى. وستشهد أيام البوغا 3000 فعالية فنية مختلفة، بينها 2000 فعالية موسيقية تشارك فيها فرق محلية وعالمية. وتشارك كنائس المنطقة بنحو 300 فرقة إنشاد من الأطفال والشباب.