مارسيل خليفة لم «يولعها» ولم يغنِّ للثورة وسط بيروت.. وجمهوره غاضب

البعض انسحب وآخرون طالبوا بتغيير مسار الحفل

مارسيل خليفة يغني وسط بيروت أول من أمس
TT

مساء أول من أمس كان الجمهور على موعد مع مارسيل خليفة في بيروت. نحو أربعة آلاف شخص احتشدوا لإحياء هذه المناسبة على مسرح الواجهة البحرية للعاصمة، ضمن حفلات «مهرجان بيروت للموسيقى والفن». كان الجمهور يريد من مارسيل أن «يولعها» كما طالبوا طوال السهرة، فقد بدا لهم مارسيل هو الأقرب والأكثر قدرة على التعبير عن الثورات التي تجتاح العالم العربي. لكن مارسيل مع ولديه رامي وبشار كانا قد قررا برنامجا مختلفا، لا يعتمد الحماسة والثورة، ولكن التجريب والاختبار الموسيقي حتى آخر رمق. لم يكشف الثلاثي عن برنامج حفلهم، واحتفظوا به مفاجأة لجمهورهم، لكن يبدو أن المفاجأة جاءت في غير مكانها المناسب.

بدا الانتظار طويلا قبل أن يبدأ الحفل. أكثر من ثلاثة أرباع الساعة استمر التأخير، بسبب حرص اللبنانيين غير المبرر على عدم الالتزام بالمواعيد، أضف إلى ذلك الانتظار في الهواء العاصف الذي هبّ على لبنان في غير موعده، وأشعر الموجودين بأنهم في الجبل وليسوا على الساحل.

انطلق الثلاثي خليفة في عزف موسيقاهم التي رافقت مارسيل وهو يغني «يا حادي العيس»، «سلملي على أمي، و«احكي لها ما جرى واشكيلها همي». هوس التوزيع وإعادة التوزيع يسكن الأب وولديه، لذلك فنكهة الأغنية الواحدة يختلف من حفل إلى آخر. الحوار بين عود مارسيل وبيانو رامي وإيقاعات بشار لم يتوقف طوال الحفل. حينا يحاول العود أن يلحق بالنغمات الصافرة والمزمجرة التي يطلقها الشابان بسرعة وقسوة، وأحيانا يخفف الولدان من نزقهما ليبرز عود مارسيل بحنانه وحنينه. أحيانا يبدو الانسجام هائلا ومذهلا، وأحيانا أخرى يصبح التناغم بين الثلاثة عصيا ويحتاج إلى المزيد من العمل والنحت. لا بد أن التجربة التي يخوضها مارسيل خليفة مع ولديه الموسيقيين منذ عام 2000 بعد انضمامهما إلى «فرقة الميادين» غيرت توجه الوالد وجعلت حفلاته حافلة بالاختبارات التي لا تنتهي. وكان رامي الذي صار له جمهور شاب قد أحيا ضمن مهرجان بيروت للموسيقى، ومنذ أيام فقط، حفلا له عزفا على البيانو، مما جعل الجمهور يتصور أن مارسيل ستكون له الصدارة في حفل أول من أمس. لكن الأمر لم يسِر على هذا النحو، فقد بقي بيانو رامي يغلب على كل ما عداه، وكعادته يجعل منه طبلة أحيانا ويداعب أوتاره من الداخل، كما يستخدم كل مفاصله وأحشائه ليجعل منه شيئا آخر صاخبا، هادرا، غير تلك الآلة الموسيقية التي تعودناها هادئة تستدعي التأمل والإنصات المركز.

طالت المقطوعات الموسيقية التي جاء الأزيز الصادر منها مكرورا ومضجرا للبعض، ثم غنى مارسيل «كانت الحلواية» لتعود تجارب المقطوعات الموسيقية طويلة لمرة جديدة. أمر جعل مجموعة من الحاضرين تنسحب بشكل مفاجئ، ونسمع صوتا عاليا يقول «اشتقنالك يا مارسيل، بدنا مارسيل إلي منعرفو»، في ما قالت سيدة وهي تغادر المكان: «ضجرنا... جئنا نسمع أغنيات المقاومة، تأمركت يا مارسيل».

مارسيل لم يتأمرك، فقد قدم مقطوعة موسيقية جميلة «لكل الشهداء الذين يسقطون على أي أرض نظيفة من المحيط إلى الخليج، في أي بلد عربي»، كما قال لجمهوره. وأنشد قصيدة محمود درويش «نشيد الموتى» على وقع موسيقى مصاحبة وهو يقول: «عودوا أنّى كنتم/ فقراء كما أنتم/ غرباء كما أنتم/ يا أحبابي الموتى عودوا/ حتى لو كنتم قد متم»، مكملا القصيدة: «لكنّا سوف نسير/ ومياه النهر تسير/ وشموس الأفق تسير/ ونظلّ نسير نسير...».

لكن مارسيل في النهاية لم ينزل عند رغبة الجمهور بحسب ما شعر الحاضرون، غنى «أحنّ إلى خبز أمي» وحده على العود، بطريقته التقليدية خاشعا، مغمض العينين، وغنى «جواز السفر» بتوزيع جديد، لكن عدد أغنياته التي أداها لم يزد على خمس أغنيات. ورغم أن الجمهور كان يطالب بإلحاح بأغنية «يا بحرية هيلا هيلا» منذ بداية السهرة فإن الاستجابة لم تأتِ.

البعض أحب الأعمال الموسيقية لمارسيل خليفة منذ أطلق «جدل»، والبعض الآخر لا يميل إلى هذا ويفضل مارسيل القديم كما يعرفه منذ زمن. وكان الحفل الذي قدمه في بيت الدين منذ سنتين بصحبة ولديه جديرا بالاهتمام لناحية المزاوجة الناجحة جدا بين مزاج الشابين رامي وبشار وتجربة خليفة الذي بات ستينيا، لكنه قادر، بل وعاشق للتغيير. المقطوعات التي أداها الثلاثة معا والعزف المنفرد لكل منهم كما المزج الرائع بن الشرقي والغربي، والتوزيع الجديد للأغنيات القديمة، كل هذا بدا متقنا وخلابا في بيت الدين. الشغل على المزاوجة لا بد آتٍ أُكله في ذلك الحفل، أما أول من أمس فبيانو رامي خليفة كان هو البطل، حتى قال أحد الحاضرين إن مارسيل خليفة كان كضيف شرف، ولم نشعر به. كان ثمة طغيان للارتجال ربما، ومبالغة في إعطاء الدور الأكبر لما كان يظن الجمهور أنه سيبقى ثانويا في الحفل، على حساب الريبرتوار الثوري لمارسيل خليفة.

تتفاوت الآراء حول ما قدمه مارسيل خليفة في حفله وسط بيروت، أول من أمس، فثمة أجيال مختلفة الأعمار باتت اليوم تنتظر مارسيل خليفة، هناك الذين واكبوه وهم صغار في مرحلته الثورية وباتوا اليوم على أعتاب الخمسينات، وثمة جيل أصغر تعود أداءه الجديد.

على أي حال سيطل مارسيل خليفة مرة أخرى في بيروت، لا ليغني وإنما ليكرم في الجامعة الأميركية يوم 25 من الشهر الحالي، ويمنح دكتوراه فخرية. وله إطلالة ثالثة في سبتمبر (أيلول) المقبل، في صيدا الجنوب، يوم المقاومة الوطنية التي يفترض أن يحضر خلالها مقاوما وثوريا لمن يفضله على هذا النحو.