الألغام تعوق مسارات التنمية في مصر.. ومصدر فزع في العراق ولبنان وليبيا

20 مليونا في مصر وحدها

خمس إجمالي عدد الألغام في العالم في مصر، وشاركت بريطانيا وألمانيا في تكاليف إزالة بعض الألغام
TT

لم تعلم الطفلة «ميم» أنها ذات يوم، وأثناء لعبها قريبا من منزلها ستصاب بلعبة تخطف قدميها بعيدا، لتذهب إلى مدرستها يوما واحدا في الأسبوع، وترجع محمولة ومتعبة؛ فالجهاز الصناعي أدمى قدميها وأصابتها الجروح والقروح من احتكاك الساقين الصناعيتين بجلدها الرقيق، تهمس بخجل: «أحب التعليم، وأنا شاطرة في المدرسة، أريد أن أكمل تعليمي»، ثم تصمت حائرة: «لكن كيف السبيل؟».

في المشهد نفسه، صاح شاب وهو يمسك بعكازيه قائلا: «هل يقبل أحد مليون دولار مقابل قطع رجليه غدرا؟». العريس بعد زواجه بأيام وهو يعمل في حقله فاجأه لغم تحرك من مكانه ليصيب قدميه وهو في ريعان شبابه.

حكايات لا تنتهي تدمي القلب.. ألغام غير مستقرة تسبح في فضاء الأرض هنا وهناك في العلمين، سيناء، ليبيا، العراق، لبنان.. موت زرعه البعض ليصيب أبرياء، لغم أعمى لا يفرق بين عسكري ومدني، بين عجوز وطفل، بين إنسان وحيوان.. لغم مصمم للقتل، أو في أحسن الأحوال لتحطيم الأطراف.

في تقرير للأمم المتحدة جاء فيه أن مصر هي أكثر دولة في العالم تعاني من مشكلة الألغام، وفيها ما يقرب من عشرين مليون لغم وقنبلة لم تنفجر؛ ما يعادل خمس إجمالي عدد الألغام في العالم، وشاركت بريطانيا وألمانيا في تكاليف إزالة بعض الألغام في مصر، إلا أنهما ترفضان تمويل عمليات كبرى لإزالتها؛ فمصر لم توقع على معاهدة «أوتاوا»، التي تحظر استخدام الألغام المضادة للأفراد! في لقائه مع «الشرق الأوسط» يقول السفير فتحي الشاذلي، رئيس الأمانة التنفيذية لإزالة الألغام وتنمية الساحل الشمالي التابعة لوزارة التعاون الدولي: «الحروب منذ أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات أسفرت عن ذرع كمية هائلة من الذخائر غير المتفجرة، كما يحدث حاليا في حرب العقيد الليبي ضد شعبه؛ فقد زرع كميات هائلة من الألغام. وفي العراق ثمة مشكلة جسيمة، وهناك دول تدور في دائرة مفرغة، مثل لبنان، فهم بعد أن يزيلوا الألغام تأتي إسرائيل لضربهم بالقنابل العنقودية، التي للأسف يستخدمها النظام الليبي. القنابل العنقودية خطيرة جدا فهي عبارة عن وعاء كبير ينتج عنه (قنيبلات) صغيرة، وضحاياها عادة من الأطفال، فألوانها مثيرة لهم ويعتبرونها نوعا من أنواع (البلي) وعندما يمسكونها تنفجر بهم».

جهود مواجهة مشكلة الألغام دوليا يقول عنها السفير الشاذلي: «في أكتوبر (تشرين الأول) 1997، شكلت الأمم المتحدة فريقا للتعامل مع هذه القضية، وبدأ يستقر نوع من الفقه للتعامل مع مسألة الذخائر والمخلفات الحربية، ونشأ نوع من المواصفات الدولية في كيفية التعامل مع المكونات المتعلقة بهذا الموضوع، وظهرت خمس دعامات للعمل المضاد للألغام هي من دون ترتيب: الدعوة لتأييد المجتمع، بما في ذلك تعبئة الموارد المالية لمواجهة هذه المشكلة، مساعدة الضحايا وعمل توعية لتجنب الضحايا المحتملين؛ فهناك خطر دائم طالما هناك أجسام قابلة للانفجار، ويجب تعليم الناس كيفية التعامل مع هذه الأجسام، ثم إزالة الألغام وتدمير المخزون. ويذكر أن بعض الممثلين في الأمم المتحدة فسروا عدم انضمام مصر لمعاهدة (أوتاوا) بأن مصر ليست مسؤولة عن زراعة هذه الألغام. كما أن الدول المتسببة في ذلك (بريطانيا، وألمانيا وإيطاليا) بينها وبين مصر علاقات قوية، وقضية مقاضاتها ليست من شأني كمدير للأمانة التنفيذية لإزالة الألغام، هي شأن الدولة المصرية، أنا أتحرك في ضوء الوثيقة التي وقعتها وزيرة التعاون الدولي عام 2006، أنا عندي محددات منها إزالة الألغام وتنمية الساحل الشمالي الغربي، والأمانة التنفيذية هي آلية مشتركة بين الأمم المتحدة والحكومة المصرية، وهذه الوثيقة تتحدث عن أربعة أهداف تتضمن: إنشاء نقطة محورية للاتصال بين الجهات المصرية، بعضها بعضا، سواء كانت هذه الجهات الحكومة المصرية، القوات المسلحة، أو المجتمع المدني، وأيضا الاتصال بين مصر والمجتمع الدولي وفي مقدمته منظومة الأمم المتحدة، ودول الجهات غير الحكومية المعنية بالعمل المضاد للألغام، ثم تلقي ما يمكن تجميعه من دعم مالي من أجل أهداف المشروع.

وإعداد وثيقة استراتيجية للإعلام والاتصال، وتعبئة الموارد، والقيام بأنشطة لإزالة الألغام، والتوعية بمخاطرها وحصر عدد الضحايا. لهذا ليس من بين مهام الأمانة التنفيذية رفع قضايا ضد أحد. أنا أعلم أن هناك جهودا محلية في الساحل الشمالي الغربي، إحدى الجمعيات المحلية في مطروح قامت بالفعل بالاتصال بالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وطلبت أن ترفع قضية وردت المحكمة بعدم الاختصاص، والأمر لا بد أن يبدأ من المحاكم الوطنية أولا».

وحول العدد المتبقي من الألغام في مصر يقول: «تم التقدير بمعرفة القوات المسلحة وشركة أميركية متخصصة في هذا الأمر على مستوى العالم، اسمها (رونكو)، على أن الحجم الإجمالي 19.7 مليون جسم قابل للانفجار، 75 في المائة منها من الذخائر غير المتفجرة؛ بدءا من قنابل الطائرات زنة 2000 رطل، مرورا بقذائف المدفعية والهاونات من الأعيرة المختلفة، وصولا إلى طلقات الأسلحة الرشاشة والصغيرة، وأن 2.5 في المائة من الألغام المضادة للأفراد، والباقي، أي 22.5 في المائة هو من الألغام المضادة للدبابات والمركبات».

ويكمل قائلا: «وللأسف، هذه الأجسام تحتفظ بفاعليتها على الرغم من مرور كل هذه السنوات، بسبب طبيعة التربة هناك. والجيش أزال نحو 3 ملايين لغم، وهناك نحو 16 مليون لغم قابلة للانفجار».

وحول الاستعانة بأبحاث وأفكار كثيرة طرحت من علماء ومختصين مصريين لإزالة الألغام، يقول: «لم أسمع عن شخص عنده أبحاث إلا وذهبت إليه، وبعد ذلك تطرح هذه التجارب على القوات المسلحة، فهي الوحيدة المخول لها العمل في مجال إزالة الألغام، وذلك اعتبارا من 2005، خصوصا في مجال التعامل مع المخلفات الحربية».

وعن مدى فعالية التوعية لتجنب مخاطر الألغام، خاصة على مشروع ممر التنمية الذي يقوده العالم المصري فاروق الباز، يقول: «وصلنا إلى 15 ألف تلميذ في مدارس مطروح، ليتجنب الأفراد المناطق الملغمة، فمثلا هناك مكان بين مرسى مطروح وواحة سيوه اسمه (الحرايق)، وذلك لأن الألغام تنفجر وحدها هناك. والتوعية تعمل على تقليل المخاطر بعض الشيء، إلى أن يتم تطهير المنطقة. وانطلاق ممر التنمية سيكون من هذه المنطقة المرتكز فيها جانب كبير من المخلفات الحربية المتبقية من الحرب العالمية الثانية، وثمة دراسات كثيرة أجريت بمعرفة الولايات المتحدة في دول أخرى كثيرة، أظهرت أن دورة حياة الأجسام القابلة للانفجار نحو 30 سنة، لكن طبيعة التربة المصرية في هذه المنطقة حافظت عليها صالحة للانفجار كأنها تمت زراعتها بالأمس، عدا منطقة واحدة هي هضبة السلوم؛ فالرياح مع الأمطار تجعل الألغام بها تتآكل، والقوات المسلحة هي الأكثر دراية بتلك المنطقة».

وعن كيفية تنمية الساحل الشمالي الغربي، في ظل مشكلة الألغام، يقول: «الساحل الشمالي الغربي به موارد طبيعية تكفي دولة؛ فحسب التقديرات به 4.8 مليار برميل بترول، 13.4 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، و780 ألف فدان صالحة للزراعة، وموارد المياه الخاصة بها موجودة، وبه مليونان وربع مليون فدان صالحة لتربية الحيوانات والصناعات الزراعية، و650 مليون طن من المواد القابلة للتعدين، والموارد الطبيعية الموجودة في تلك المنطقة فقط تكفي لإقامة دولة مثل مصر، ووزيرة التعاون الدولي خاطبت جميع الوزراء المعنيين بالتنمية في هذه المنطقة عن أولوياتهم للتنمية في هذه المنطقة، فردوا، وانتقينا من ردودهم مشروعين بمساحة 3050 فدانا على طريق وادي النطرون - العلمين. أيضا 28 ألف فدان تابعة لوزارة لإسكان، ومثلها 28 ألف فدان أخرى موجودة جنوب ترعة الحمام في الضفة الجنوبية تابعة لوزارة الزراعة، القوات المسلحة نظفت هذه المنطقة واستخرجت منها أكثر من 315 ألف لغم وجسم قابل للانفجار، وتقدم الأمانة التنفيذية مبلغا بسيطا لتعزيز الإنفاق اليومي».

يضيف السفير الشاذلي: «أثناء دراستي للنباتات والأشجار التي يمكن أن تُزرع في الساحل الشمالي الغربي وتستخدم أقل كمية ممكنة من المياه أو مياه الصرف المعالج، وجدت أن شجر الجاتزوفا يقوم بتلطيف المناخ، وهو مصدر من مصادر الوقود الحيوي، وشجر الجوجوبا ينتج زيتا يستخدم في صناعة العطور والكيماويات وصناعة الطيران، وشجر آخر اسمه بولونيا ينتج كل 8 سنوات مترا مكعبا من أرقى أنواع الأخشاب التي لا تحتاج للمياه إلا في الأشهر الستة الأولى. ويوجد في الساحل الشمالي الغربي أرقى أنواع الماعز، واسمه البرقي، وهو نوع خفيف جدا يرعى على النباتات الصحراوية الطبيعية، ونستطيع الاستفادة من صوفه البديع أيضا.. هناك الكثير والكثير من الأفكار التي تجعل هذه المنطقة من أغنى ما يمكن، فهذا المكان منجم ذهب مخبأ تحت لغم».

ويأسف السفير الشاذلي على أنه لا يوجد مجتمع مدني معني بالألغام يعتد به، فعمليات التوعية تحتاج الكثير من الجهود، والأجدى هو مخاطبة المجتمع المدني في تلك الدول التي تسببت في زراعة الألغام، لأنهم يستطيعون الضغط على حكوماتهم، مشيرا إلى أن الميزانية المقدرة لإزالة كل الألغام ليست جسيمة، فهي تقدر بنحو 250 مليون دولار.

الدكتور محمد ميرغني، رئيس قسم القانون العام بكلية الحقوق جامعة عين شمس، يلفت في هذا السياق إلى أن مصر فرطت كثيرا في حقها على الرغم من أنها أكثر الدول الواقع عليها ضرر، ومن أكثر الدول احتياجا لأرضها، ومن ذلك عدم انضمامها لاتفاقية «أوتاوا»؛ حيث إن وجهة النظر الرسمية هي أن هذه الاتفاقية تعيق مصر عن حماية أرضها وأمنها القومي.