الرئيس الفرنسي يستوحي وسائل الهروب من العالم الخارجي نحو الذات

ساركوزي يقرأ «فرار السيد موند» لجورج سيمينون

ساركوزي عند وصوله لمقر المجلس الأوروبي في بروكسل (إ.ب.أ)
TT

وصل ساركوزي إلى مقر اجتماع المجلس الأوروبي في بروكسل أول من أمس يتأبط أوراقه ورواية للكاتب الشهير جورج سيمينون، ولا نعرف إن كان اختيار الكتاب لأن ساركوزي موجود في بلجيكا وهي الموطن الأصلي لسيمينون الذي هاجر وهو شاب واختار الاستقرار في باريس، أم أن ساركوزي مغرم بالروايات الوجودية التي ازدهرت كتابتها في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، أم أنه كان قد شاهد الفيلم المقتبس عن الرواية. ومن المحتمل أيضا أن ساركوزي يعيش فترات تأملية يربط فيها بين العالم الخارجي والعمق الإنساني.

وتروي قصة الكتاب حكاية السيد نوربيرت موند الذي يمتلك المال وينتمي إلى أصول بورجوازية، وهو متزوج من امرأة «مملة» ويميل ابنه نحو سلوكيات أنثوية، كما كان يعمل تحت إدارته وفي شركة التصدير التي يمتلكها موظفون محترمون.

ولم يتساءل قط موند إن كان سعيدا أو تعيسا في حياته، لكن في يوم من الأيام اكتشف أن حياته لا معنى لها. هذا الاكتشاف المفترض أن يحبطه لعب دورا عكسيا حيث منحه قوة وجرأة وهو في سن الثامنة والأربعين لأن يتخلى عن كل شيء.. أن يرحل ليصبح مجهولا أو شخصا آخر.. باحثا عن وجود حر.

في يوم المغادرة أو الهروب لم يترك السيد موند لنفسه مجالا للتراجع أو فرصا للاختيار، فحلق شاربه وأفرغ حسابه البنكي وأخذ أول قطار باتجاه مدينة مرسيليا.

الشعور بالإحباط والخيبة الوجودية كانت أسباب التخلي عن كل شيء، واختيار حياة عشوائية فقيرة قادته نحو فندق حقير في مرسيليا حيث يتعرف على جولي، وهي امرأة بائسة أنقذها من الانتحار. ويختار أن يعيش هناك معها حيث يجد السيد موند طريقه نحو الآخرين ونحو وجوده، وينعكس هذا الطابع الوجودي من خلال عنوان الكتاب حيث سمى الكاتب شخصيته الرئيسية التي تدور الأحداث حولها السيد «موند»، وهي كلمة فرنسية تعني «العالم».

وكتبت الرواية سنة 1944 لوالتي أبحر من خلالها الكاتب من خلاله في مغامرة وجودية داخل نفسية بطلها الهارب بنفسه من العالم المحيط به وواقعه وكأنه كان سجينا لهذا العالم. ولا يعتبر هذا الكتاب مرحا ولا حزينا ولا يحمل تشاؤما أو تفاؤلا، ورغم أنه وجودي فإن فيه الكثير من الموضوعية.

وقد تم اقتباس الكتاب وتحويله إلى شريط سينمائي سنة 2004 أخرجه الفرنسي كلود غوريتا.

ولد الكاتب جورج سيمينون في لياج، ببلجيكا، في 13 فبراير (شباط) عام 1903 في عائلة متوسطة الحال، ومع واقع شخصية والدته التي «لم تكن محبة له كما يجب»، وهذا أحد الاعترافات الخطيرة التي صرح بها، ومع والد «أقرب إلى قلبه».

وقرر بعد ذلك الانطلاق باكرا في الحياة ليتمكن من الإفلات من سجن العائلة وخاصة الوالدة التي كانت تميل أكثر إلى ابنها الثاني كريستيان وأهملت جورج الكبير لاعتبارات، أولها أنه كان مشاكسا وعنيدا وغير خاضع، وهي كانت متسلطة لا ترضى بمن يعاندها. هذا الصراع مع والدته خرج منه باكرا حسب تواريخ حياته، غير أنه على ما يبدو لم يخرج منه حتى وفاته لأنه وبعد كل النجاح والشهرة عاد إلى منجم حياته الداخلية واستنتج أخيرا أنه لم يكن سعيدا.

في السادسة عشرة، ترك سيمينون المدرسة وراح يعمل في صحيفة وكتب أول مقالاته. وفي الثامنة عشرة نشر أولى رواياته: «على جسر السفن»، ووقعها باسم مستعار هو «جورج سيم».

وفي نهاية عام 1922 غادر سيمينون إلى باريس، حيث أشعره صخبها بالخوف فكتب في مذكراته: «قررت سريعا الزواج كي لا أقع في الخطايا الممكنة في مدينة مثل باريس..»، فأسرع إلى لياج وتزوج ريجين وكانت صديقة قديمة له وعاد معها إلى باريس.

كان كل اهتمام سيمينون آنذاك منصبا على الكتابة، وإلى جانب عمله المرهق في الصحافة بدأ في كتابة القصص لينشرها في الصحيفة التي يعمل لديها. وسريعا وصل سيمينون إلى الشهرة، وخوفه من الانفتاح سريعا في العاصمة الفرنسية لم يجعله يتردد أمام واقع زواجه وانطلق في مغامرة عاطفية لا مثيل لها.

ولم تكن مؤلفات سيمينون متميزة لأنها مثيرة وحماسية فحسب، بل لأنها ارتكزت أيضا على ثقافة وقراءات شاملة، فهو قرأ فرويد والفريد آدلر ويونغ، وتميز بقدرته الهائلة على التحليل والربط.