«القيصرية» في أربيل.. أقدم وأكبر مراكز التسوق يخشى عليها أهلها من الاندثار

سوق بعشرة مداخل.. والزائر لها يجد فيها كل شيء

أحد محلات التوابل في سوق أربيل («الشرق الأوسط»)
TT

ليس لزائر مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، إلا أن يتجول في سوقها القديمة، أو سوق القيصرية، كما يطلقون عليها، وهي أيضا تحمل اسم سوق القلعة، كونها تقع قبالة أقدم قلعة في تاريخ العراق.

لك أن تدخل سوق أربيل القديمة من عشرة أبواب، أبواب تتوزع على جميع جهاتها، فهذه السوق التي تحتل مساحة شاسعة في قلب المدينة القديمة تضم في الواقع عشر أسواق، فما إن تطأ قدماك أيا من مداخلها حتى تجد نفسك أمام تفرعات ومداخل أخرى، أسواق تقودك إلى أسواق، وعليك أن تترك لهواجسك وقوة حاسة شمك أن تكون دليلك إلى سوق العطارين، أو سوق الحلويات أو سوق المواد الغذائية الموجودة تحت سقوف السوق الكبيرة، فهذه الأسواق التي تلتقي وتفترق تختلف بخصوصية معروضاتها، فهناك سوق الذهب لصاغة المجوهرات، وسوق الأقمشة، وسوق العسل والحلويات التقليدية الذي تعرض دكاكينها السجق (نوع من الحلويات التقليدية) بنوعيه؛ الأسود المصنوع من عسل العنب الأسود والجوز، والأبيض المصنوع من عصير التفاح أو العنب الأبيض، والمن والسلوى (من السماء) المحشو بالجوز أو الفستق، ودكاكين تعرض أفخر أنواع المكسرات المحضرة يدويا، مثل الفستق واللوز والجوز والبندق والكازو، حتى إن الزائر لهذه السوق لا يمكن له أن يقاوم إغراء تلك الحلويات والمكسرات من دون أن يتذوقها مجانا، وبدعوات صادقة، وكريمة من أصحاب هذه الدكاكين، وهي دعوات في الغالب تقودك لغواية الشراء بنفس سعيدة.

وسط هذه السوق يقوم محل كاكه (الأخ باللغة الكردية) صلاح، الذي يبيع أفخر أنواع العسل الطبيعي على الإطلاق، وبضاعته تكاد تنتشر إلى جميع أنحاء العالم، في هذا المحل حيث الأواني التي تضم أنواعا مختلفة من العسل، التي يتميز كل نوع منها بلون وطعم خاص، سيذوق الزائر أكثر من صنف من العسل قبل أن يقرر شراء ما يعجبه، عسل بلون الذهب المصفى تطفو وسطه خلايا النحل الطبيعية، هذا هو الأفضل، مثلما يشير كاكه صلاح، الذي يسأل زبائنه ما إذا كانوا يريدون إضافة القليل من شمع خلايا النحل «لأنه مفيد لقرحة المعدة والقولون».

في سوق الأقمشة ستواجهك عشرات الألوان البهيجة من الأنسجة، ألوان تتناسب مع ذوق المرأة الكردية المعروفة بحبها للألوان الزاهية كالأخضر والأحمر والبرتقالي والأصفر والأزرق، على أن غالبية من هذه الأقمشة تكون مطعمة بخيوط لماعة ذهبية أو فضية أو ملونة، فهذا ما يتميز به الثوب التقليدي للمرأة الكردية التي تصر على ارتدائه يوم الجمعة عندما تخرج مع عائلتها إلى الريف وبين الوديان أو فوق سفوح الجبال للترفيه عن أنفسهم بحيث لا تخلو هذه الرحلات الأسبوعية من الموسيقى الشعبية والدبكة الكردية التقليدية، كما ترتدي الكردية هذا الزي في كل المناسبات السعيدة كالزواج والأعياد وأعياد الميلاد، ومن المستحيل أن تجد كردية لا تحتفظ بأكثر من زي كردي تقليدي لها.

تقول إيفين، وهي موظفة شابة كانت ترافق أمها لشراء الأقمشة: «عندنا في العائلة مناسبة عرس إحدى بنات عمي، وجئنا لشراء الأقمشة لخياطتها كبدلات كردية تقليدية؛ فمن عادتنا أن نخيط عدة بدلات لهذه المناسبات وبألوان زاهية تتلاءم وطبيعة المناسبة»، مشيرة إلى أن «هناك خياطات وخياطين ماهرين متخصصين بهذه الأزياء التي تكلف غاليا»، موضحة أن «هناك خياطات ومصممات طوروا الزي التقليدي الكردي للمرأة، وجعلوه معاصرا ومسايرا للمودة ويتناسب مع حركة العصر، لمساعدة المرأة على ارتدائه بأكبر عدد من المناسبات».

ستعتقد بأنك تدخل مغارة علي بابا في إحدى قصص ألف ليلة وليلة، عندما تدلف إلى سوق الذهب، والمعروف أن المرأة الكردية حريصة على اقتناء أكبر كمية من الذهب. واجهات المحلات تعرض قلائد كبيرة ومزخرفة ومرصعة بالأحجار الكريمة، خواتم وأحزمة ذهبية تزن عشرات المثاقيل، مصوغات مشغولة بدقة وعناية من قبل صاغة محليين بضائعهم تتلاءم وذوق المرأة الكردية، والمعروف عراقيا أن ذهب أربيل (عيار 21 قيراطا) له ميزة خاصة، وهي اللمعان ونقاوة لونه الأصفر. يقول لقمان عزيز، صاحب محلات قصر الذهب: «هنا تجد كنوزا من الذهب والماس»، وربما هذا المحل هو الأكبر في سوق أربيل القديمة، كما أن له فرعين في «ماجدي مول» و«فاميلي مول»، مصوغات تزن كيلوغرامات من الذهب الصافي والمشغول بأحجار الياقوت والزمرد والفيروز، ذلك أن العوائل في بعض المدن والقرى الكردية تطلب أكثر من كيلوغرام من الذهب، وأحيانا ثلاثة كيلوغرامات كمهر لابنتهم، على الرغم من أن الشابات يؤكدن أن «هذه العادة انتهت اليوم، لأنها تسببت بنسبة كبيرة من العنوسة، وربما هناك من سكان الأرياف من العشائر يتمسكون بعادة طلب الكثير من الذهب تقديرا لابنتهم ولاسم عشيرتهم ومكانتها».

ويقول عزيز لـ«الشرق الأوسط»: «نعرض مصوغات مشغولة محليا تتناسب وذوق المرأة الكردية التقليدية، وهناك مجوهرات ماسية وذهبية نستوردها من دبي وهي تحمل اسم ماركات عالمية مثل (كارتيه) و(بلغاري)، و(داماس) وغيرها من الماركات العالمية، وهذه تقبل عليها المرأة الكردية العصرية»، مشيرا إلى «القوة الشرائية العالية التي يتمتع بها العراقيون اليوم؛ من العرب المقبلين من بقية مناطق العراق أو الأكراد».

إن تداخل هذه الأسواق واتصالها ببعضها يأتي بطريقة لا تعطي فرصة للزائر بأن يتركه منذ أن يلجه؛ سواء عن قصد أو بفعل غوايات روائح عطور الأعشاب والتوابل وأنواع الحلوى المصنعة يدويا في البيوتات الكردية، سوق تأخذك إلى أخرى، تجرفك مثل تيار مياه يجري بقوة في نهر من الناس، سوق الأقمشة تفضي إلى سوق الملابس النسائية، ثم سوق صاغة الذهب والفضة، حتى سوق الإكسسوارات النسائية، وهكذا حتى سوق الحلويات التي يقابل مدخلها سفح القلعة، بينما قبالتها تماما، وعند حافة سفح التل الذي تنتصب فوقه قلعة أربيل تجتذب ألوان البسط المنسوجة يدويا الزائر، كأنها بانوراما يومية دائمة، بسط يتداخل فيها الأحمر مع الأزرق والأخضر، رسمتها بخيوط الصوف والحرير أنامل كرديات حسناوات يعشن في أرياف كردستان المشهورة بطبيعتها الملونة والبهيجة، لهذا تبدو منسوجات وملابس المرأة الكردية محاكية لطبيعة مناطقها.

نهر بشري يومي يجري بهدوء واسترخاء في هذه السوق؛ فالزحام يبدأ منذ أن تفتح محلات السوق أبوابها منذ الصباح الباكر، ولا ينتهي حتى مع ساعات المساء المتأخرة عندما تغلق السوق أبوابها؛ فعلى الرغم من بناء وافتتاح مراكز تجارية ضخمة وكثيرة في أربيل، أحدها على بعد أمتار قليلة من السوق القديمة (القيصرية) في منطقة (شيخ الله)، فإن الناس يتدفقون على سوق القلعة على مدار ساعات اليوم، وحسب بيشتوان، وهو من أبناء أربيل الأصليين، فإن «هذه هي أقدم سوق عرفها أهل أربيل، وأجدادنا وجداتنا كانوا يتسوقون فيه، وهكذا وجدت أمي وأبي وأنا وزوجتي اليوم نفعل ذات الشيء، ببساطة لأن هذه السوق تعرض كل ما تحتاجه العائلة الكردية، فأنا لا أحتاج إلى الذهب إلى أماكن عدة للبحث عما نحتاجه من توابل أو مواد غذائية أو أقمشة أو مصوغات أو ملابس رجالية أو نسائية، أو أدوات منزلية، وحتى العسل والحلويات، بينما تجد الفاكهة المحلية الطازجة، مثل التوت والمشمش والتفاح الأبيض الصغير، تباع في العربات في الجهة الأخرى من السوق».

ويشير بيشتوان، واسمه يعني الإسناد باللغة العربية، إلى أن «من أبرز مميزات هذه السوق هو أن الزائر يستطيع الدخول إليها والخروج منها من أي منطقة يريد أو تناسبه لكثرة مداخلها، كما أن الزائر إليها يجد ما لا يجده في بقية الأسواق من بضائع ذات أسعار مناسبة».

إلا أن الحريصين على تاريخ وتراث مدينة أربيل يخشون أن تبتلع التوسعات الجديدة هذه السوق التراثية التي تعتبر علامة مميزة لعاصمة إقليم كردستان، خاصة أن أبنية حديثة هي عبارة عن أسواق ومكاتب تحيط أو تقترب من سوق القلعة. وتصف المهندسة المعمارية الكردية، شيرين شيرزاد، مديرة مشروع تطوير قلعة أربيل، هذه الأبنية الحديثة بـ«الديناصورات»، مشيرة إلى أنها «تجارب معمارية شوهت معالم مركز المدينة القديمة المتميزة بقلعتها التاريخية»، فما «حصل في منطقة (شيخ الله)، وهي المنطقة التي أنشئت فيها العمارات الحديثة، فقد تم تهديم مناطق سكنية وتجارية شاسعة باسم المركز المدني الجديد، وهدمت معها مقابر ذات قدسية لدى المجتمع الكردي»، مستطردة في شرحها أن «الخسارة لا يمكن قياسها ببساطة في عدد الأبنية المشيدة كبديل. كما أن حجم التلوث البصري في خط الأفق وما يرافقه من ضياع في خصوصية المدينة لا يمكن تعويضه بعمران بداعي العصرية أو الحداثة».

وتمضي المهندسة شيرين، وهي ابنة واحدة من العوائل الكردية العريقة، متحدثة بلهجة تعبر عن حرصها وانتمائها لهذه المدينة وتراثها، قائلة: «إن القرارات غير المدروسة داخل مراكز المدن التاريخية أو القريبة منها، أو تلك التي تقع على محاورها، والإهمال المستمر عبر السنين لهذه المراكز القديمة وتعرضها للخراب والتأكل وعدم وجود نص قانوني يحافظ على الأبنية التراثية الخاصة بالقطاع الخاص، وإن وجدت فهي غير كافية، وعمليات شق الطرق في الأحياء القديمة باسم التجديد بحاجة إلى وقفة ومراجعة، فالمعاصرة لا تعني الانقطاع عن الجذور، واستيعابها لا يعني التفريط في تراث الأمة الحضاري».

وتعبر المهندسة شيرين، الشغوفة بتاريخ وتراث مدينتها، عن خشيتها من اختفاء سوق أربيل القديمة، وأن تحل مكانها مراكز تجارية لا تنتمي عمارتها إلى التراث المعماري للمدينة، تقول: «من المؤسف أن نجد اليوم مدينة أربيل وهي مهددة بزوال القطاعات التاريخية القديمة من خلال الزحف العمراني الحديث وشق الطرق واستعمال الأراضي بعمران يتميز في أغلبه بعدم ملاءمته البيئة المحيطة، وبتناقض مقصود في بعض الأحيان مع واقع البيئة المحلية وجغرافية المنطقة».

وتذهب رئيسة الهيئة العليا لإعادة تأهيل قلعة أربيل إلى عمق المشكلة مباشرة، قائلة: «أربيل تعاني من انعدام الضوابط التخطيطية والعمرانية والقانونية اللازمة للحفاظ على خصوصيتها، كما تفتقر إلى المسوحات التوثيقية التسجيلية الضرورية لتثبيت مفردات التراث المعماري والحضاري فيها».