مخاطر وتأثيرات الحياة في المدن

بحسب دراسة ألمانية: تؤثر على نشاط المخ وتؤدي للقلق واضطرابات المزاج

تعاني المدن الصينية زحفا ريفيا (أ.ف.ب)
TT

يشهد العالم حاليا توسعات عمرانية متسارعة في المدن، يصاحبها تغيرات كبيرة على مستويات معيشتنا وأنماط حياتنا وسلوكياتنا الاجتماعية والنفسية وأحوالنا وظروفنا الصحية. ويعيش الآن أكثر من نصف سكان العالم في المدن، وهي نسبة آخذة في الازدياد، فوفقا لمنظمة الصحة العالمية، لأول مرة في التاريخ يقطن أكثر من 50 في المائة من سكان العالم في المناطق الحضرية (المدن)، وبحلول عام 2050 سيقطن 70 في المائة من سكان العالم في المدن.

وقد فرض النمو الحضري المتزايد، العديد من التحديات الصحية والاجتماعية والنفسية الكبيرة، التي أثرت بالفعل على جودة حياة سكان المدن، ومن بين هذه التحديات ارتفاع معدلات العنف والجرائم والإدمان والضغوط والأمراض النفسية، وخطر التعرض للإصابات والكوارث والأمراض المعدية والوبائية، والأمراض المزمنة، مثل أمراض القلب والسرطان والسكري، والخمول البدني، وتوافر الأنظمة والخيارات الغذائية غير الصحية، كما أن تلوث البيئة والهواء ووسائل المواصلات الميسرة تؤثر أيضا على أسلوب الحياة الذي يؤثر مباشرة على الصحة. وفي هذا الصدد، تقول الدكتورة مارغريت تشان، المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية، «إن أحوال سكان المدن أفضل من أحوال سكان المناطق الريفية بشكل عام، ذلك أنهم يستفيدون بشكل أكبر من الخدمات الاجتماعية والصحية، كما أن متوسط عمرهم المأمول أطول مما يسجل في الريف، ولكن المدن يمكنها أن تكون أيضا ساحة تتمركز فيها الأخطار المحدقة بالصحة، مثل نقص المرافق الصحية ووسائل جمع القمامة والتلوث وحوادث المرور وتفشي الأمراض المعدية، بالإضافة إلى أنماط الحياة غير الصحية».

كما يقول الدكتور جاكوب كوماريسان، مدير مركز منظمة الصحة العالمية للتنمية الصحية في مدينة كوبه باليابان، «العالم يتحضر بسرعة، مما يؤدي إلى تغيرات مهمة في معايير المعيشة وأساليب الحياة والسلوك الاجتماعي والصحة. وفي حين تقدم الحياة الحضرية العديد من الفرص، بما فيها احتمال إتاحة رعاية أفضل، فإن البيئات الحضرية المعاصرة يمكن أن تتركز فيها المخاطر الصحية، وظهور مخاطر جديدة».

وقد درس العديد من العلماء، مخاطر وتأثيرات الحياة في المدن، ومن بين هذه الدراسات، دراسة ألمانية حديثة، نشرت على الموقع الإلكتروني لمجلة «نيتشر» (الطبيعة) البريطانية العلمية، في 23 يونيو (حزيران) الحالي، وقد توصلت هذه الدراسة إلى أن أدمغة الأفراد الذين يقطنون في المدن، تعمل بطريقة مختلفة عن أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية، فقد اكتشف الفريق البحثي في هذه الدراسة، أن منطقتين في الدماغ مسؤولتان عن تنظيم الانفعال والقلق والتوتر والضغوط العصبية، تنشطان بطريقة مفرطة بين سكان المدن، عندما يتعرضون للتوتر والضغوط. ويمكن أن يكون ذلك مسؤولا عن المعدلات الزائدة لمشاكل الصحة العقلية في المناطق الحضرية. فقد أظهرت الدراسة أن الأشخاص الذين يعيشون في المدن أكثر عرضة لخطر الإصابة بالقلق واضطرابات المزاج، وذلك بسبب تأثير الحياة في المدينة على هاتين المنطقتين الدماغيتين.

ففي هذه الدراسة الجديدة بقيادة البروفسور أندرياس ماير - ليندينبرغ مدير معهد الصحة العقلية المركزي في مانهايم بألمانيا وأستاذ ورئيس قسم الطب النفسي والعلاج النفسي بجامعة هايدلبيرغ الألمانية، تم إجراء مسح ضوئي لأنشطة الدماغ باستخدام أشعة التصوير بالرنين المغناطيسي، لدى أكثر من 50 متطوعا من الأفراد الأصحاء الذين عاشوا في عدة أماكن، تتراوح من المدن الكبيرة إلى المناطق الريفية، بينما كانوا يشاركون في أداء مهام حسابية ذهنية صعبة، وكان هدف التجربة جعل مجموعات المتطوعين يشعرون بالقلق بشأن أدائهم، وبينت النتائج أن منطقة «اللوزة» (الأميجدالا Amygdala)، لدى المشاركين الذين يعيشون في المدن كانت مفرطة في النشاط بشكل واضح خلال مواقف الضغوط. وقال ليندينبرغ «نحن نعلم ما تفعله منطقة اللوزة، فهي أشبه بجهاز استشعار الخطر في الدماغ، ومن ثم فهي مرتبطة بالقلق والاكتئاب». كما أن هناك منطقة أخرى في الدماغ، تسمى «القشرة الحزامية» (cingulate cortex)، مسؤولة عن التحكم في العاطفة والتعامل مع التغيرات البيئية المعاكسة، كان نشاطها مفرطا لدى المشاركين الذين ولدوا في المدن، فقد وجد العلماء أن هاتين المنطقتين في الدماغ حساستان بشكل كبير للقلق.

يقول دانييل غولمان في كتابه الشهير «الذكاء العاطفي»، أن اللوزة أو الأميجدالا، كلمة مأخوذة من الكلمة اليونانية (almond)، وهي تبدو على شكل لوزة تتكون من تراكيب متداخلة تقع أعلى جذع المخ بالقرب من قاعدة الدائرة الحوفية، ويوجد في مخ الإنسان، أميجدالتان، واحدة في كل جانب من جانبي المخ، والإميجدالا هي الجزء المسؤول عن الجوانب العاطفية، فإذا انفصلت عن بقية أجزاء المخ، كانت النتيجة عدم القدرة على تقدير دلالة الأحداث العاطفية، التي يطلق عليها «العمى العاطفي» (أي عدم الاكتراث والشعور بالآخرين والانطواء)، ويؤدي العجز عن تقدير المشاعر العاطفية إلى فقدان الفرد للمقدرة على التواصل مع الآخرين، فالأميجدالا في الدماغ تعد مخزن الذاكرة العاطفية، فالحياة من دونها، تصبح حياة مجردة من أي دلالات ومعان شخصية.

وقال البروفسور ليندينبرغ، «إن التفكك الاجتماعي والضجيج والازدحام الزائد، قد تكون جميعها عوامل مؤثرة في الضغوط العصبية على الأفراد في المدن، كما أن نتائج هذه الدراسة تسهم في تفعيل فهمنا لخطر البيئة على الاضطرابات النفسية والعقلية والصحية بشكل عام». وأضاف أن «ما يمكن القيام به هو محاولة جعل المدن أماكن أفضل للعيش من وجهة نظر الصحة العقلية، وحتى الآن ليس هناك أدلة كثيرة تخبر مخططي المدن بما يمكن أن يكون جيدا وما يمكن أن يكون سيئا». وقال ليندينبرغ، إنه «يتوقع أن تؤخذ نتائج هذه الدراسات في الاعتبار مستقبلا عند التصميم والتخطيط للمدن الجديدة، إذ إنها تسهم في نهج جديد لربط العلوم الاجتماعية والعلوم العصبية والسياسات العامة، للاستجابة للتحديات الصحية الرئيسية للمناطق الحضرية».

يذكر أن هناك دراسة سابقة أجراها باحثون من معهد الصحة العقلية في أمستردام في هولندا، ونشرت في شهر فبراير (شباط) من العام الماضي، قد أظهرت أن الأفراد الذين يعيشون في المدن لديهم خطر متزايد للإصابة باضطرابات القلق بنسبة 21 في المائة، وخطر متزايد بنسبة 39 في المائة، للإصابة باضطرابات المزاج، بالإضافة لحدوث اضطرابات الفصام «شيزوفرينيا» لدى السكان في المدن، والفصام أحد الأمراض العقلية أو الذهنية الأساسية، وينقسم لعدة أقسام، ويؤثر على الأفكار والوجدان والشخصية، وأداء الوظائف الاجتماعية، حيث يتضمن اضطرابات في التفكير واعتقادات خاطئة، وهلاوس سمعية وتدهور في الشخصية، ويعيش المريض في عالم خاص به مبتعدا عن الحقيقة والواقع.