رحيل الفنانة سعاد محمد.. أحد أعمدة الغناء العربي

صاحبة «فتح الهوا الشباك» و3 آلاف أغنية

TT

غيب الموت أمس الفنانة سعاد محمد بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز 85 عاما، قدمت خلالها مشوارا فنيا ثريا. وبعد معاناة طويلة مع المرض خضعت خلالها للعديد من العمليات الجراحية منها عمليتان جراحيتان في المخ والقلب.

ولدت سعاد محمد في منطقة تلة الخياط في بيروت في 2 فبراير (شباط) 1926 لأب مصري وأم لبنانية، وقد ورثت جمال الصوت عن والدها الذي كان عازف كمان، يغني بشكل غير احترافي في سوق سرسق. لكن أول من عرفها على الغناء ودربها على أصوله، رجل ضرير اسمه حبيب الشربتلي، علمها أصول غناء الأدوار والموشحات، ومن ثم تعلمت أصول تجويد القرآن على يد أحد الشيوخ، وأسهم الموسيقار توفيق الباشا في تعليمها أصول الغناء الشرقي.

عندما قررت سعاد محمد الغناء في طفولتها، حوربت بشدة من قبل أهلها لأن الغناء كان عيبا في ذاك الزمن، إلا أنها كانت «تتحايل» عليهم وتغني في خزانة الملابس لتمارس هوايتها المفضلة، وغالبا ما كان ينتهي الأمر بسحب والدتها لها من شعرها ومعاقبتها وتعنيفها. وفي نهاية المطاف اضطرت الأم للرضوخ لطلب طفلتها، لكنها ظلت ترافقها في حفلاتها لسنوات طويلة.

أول حفل لها كان في مدينة حلب السورية، ويومها حين انتهت من وصلتها الغنائية قدم لها المتعهد صندوق ألعاب بدل أتعابها. في عام 1948 غنت في سينما «روكسي» في بيروت ونجحت في لفت الأنظار إلى موهبتها.

اهتم جارها الشاعر والصحافي محمد علي فتوح، الذي أصبح فيما بعد زوجها، بها وبموهبتها، واصطحبها في يوم من الأيام إلى بيت «الصبوحة» لأن الشيخ زكريا أحمد كان هناك. حين رآها الأخير، قال لفتوح «جايبلي عيلة يا محمد»، إلا أنه حين أسمعه صوتها، حمل عوده ورافقها عزفا ووعدها بأن يفتح لها الطريق إلى مصر.

في القاهرة، حيث ذاع صيتها، قدمت على مدار مشوارها الفني أكثر من ثلاثة آلاف أغنية، تعاونت فيها مع كبار المطربين والملحنين من مختلف الأجيال الفنية، كما واكب صوتها ثورة الشعب التونسي من خلال أدائها قصيدة «إرادة الحياة» للشاعر الكبير أبو القاسم الشابي التي يقول مطلعها «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر» التي لحنها رياض السنباطي.

وتعرفت على المخرج محمود ذو الفقار، الذي اقتنع بصوتها ورشحها لبطولة فيلم «فتاة من فلسطين» الذي غنت فيه من كلمات الشاعرين بيرم التونسي وعبد العزيز سلام ومن ألحان الموسيقار رياض السنباطي ومحمد القصبجي. نجاح الفيلم جعل سعاد محمد تعود إلى بيروت أكثر ثقة بنفسها، فأحيت حفلات ناجحة وقامت بجولات عربية تعرف خلالها الجمهور على موهبة فنية لصبية صغيرة لا تتجاوز الـ 16 من عمرها.

«مظلومة يا ناس» كانت أول أغنية لها حققت انتشارا كبيرا، من بعدها اشتهرت لها أغنية «غريبة والزمن»، لتعود بعدها إلى القاهرة وتلتقي بالمنتجة آسيا داغر، وتم الاتفاق بينها على بطولة ثاني أفلامها «أنا وحدي» للمخرج هنري بركات، وشاركها بطولته ماجدة الصباحي وميمي شكيب وعمر الحريري ونور الدمرداش وعبد الرحيم الزرقاني وصلاح نظمي الذي شاركها أيضا في فيلم «فتاة من فلسطين». وفي هذا الفيلم غنت من ألحان رياض السنباطي ومحمود الشريف، وقدمت فيه أربع أغنيات انتشر بعضها بشكل واسع في العالم العربي خصوصا أغنية «فتح الهوا الشباك» و«هاتوا الورق والقلم» لتعود بعدها ثانية إلى لبنان، وتتابع مشوارها الغنائي فسجلت ثلاث أغنيات من ألحان توفيق الباشا، محمد محسن وخالد أبو النصر.

بعد هذين الفيلمين لم تشارك سعاد محمد في أي من الأفلام السينمائية تمثيلا، إلا أن صوتها صدح في العديد منها كأفلام «الشيماء»، «رابعة العدوية» و«بمبة كشر». هذه الأعمال أسهمت في ذيوع صيتها وانتشار أغنياتها في الإذاعة المصرية. في أحد الأيام كانت تغني في القاهرة، فدخلت أم كلثوم إلى المكان الذي كان يوجد فيه أيضا الموسيقار رياض السنباطي، الذي عرفها على «الست» بأنها «سعاد اللبنانية» وبأنها أفضل من يغني ألحانه من بعدها. وبعد هذا اللقاء نشأت بين الفنانتين علاقة صداقة واحترام.

تزوجت سعاد محمد في بداياتها من مكتشفها محمد علي فتوح ودام الزواج 15 سنة وأنجبت منه ستة أبناء وبنات من بينهم المطربة نهاد فتوح ثم انفصلا، لتتزوج بعد ذلك من المهندس المصري محمد بيبرس الذي رزقت منه بأربعة أبناء، ثم تزوجت من رجل لبناني يصغرها سنا اسمه أسعد مرعي، ولكن زواجهما لم يدم طويلا ولم ترزق منه بأطفال.

عاشت سعاد محمد بين القاهرة وبيروت، ولكنها آثرت في السنوات الأخيرة البقاء في مصر، لتعيش بين أولادها وأحفادها. وقد ابتعدت عن الفن أكثر من مرة، بسبب التردي الذي تعيشه الساحة الفنية، ولأنها كانت تعرف أن زمن الكبار قد ولى. ولكنها فاجأت الناس عندما أطلت وغنت مجددا قبل عدة سنوات في مهرجان قرطاج، ويومها تمكنت السيدة الثمانينية من التفوق غناء على من شارك في المهرجان.

خضعت قبل عدة سنوات لعمليتين خطيرتين، الأولى في القلب والثانية في الرأس، وخرجت منهما بصحة جيدة، إلى أن توفيت مساء يوم الاثنين 4 يوليو (تموز) 2011 في منزلها في القاهرة.

من جانبه، وصف الملحن حلمي بكر رحيل سعاد محمد بأنه «غياب لعملاقة النغم العربي التي أثرت في وجدان العرب كثيرا»، قائلا لـ«الشرق الأوسط» «رحيل سعاد محمد هو فقدان لأحد أعمدة الغناء العربي على مدار سنوات طوال، وللأسف نحن لا نشعر بقيمة الأشياء الكبيرة في حياتنا إلا بفقدانها».

أضاف بكر «كانت تحب الفن بدرجة تفوق الوصف ولقد لحنت لها 33 قصيدة في مسلسل (بلبل الإسلام) في السبعينات ومن شدة عبقريتها الغنائية طرحت أغنيات هذا المسلسل في شرائط كاسيت في الأسواق ولاقت إقبالا كبيرا، ويكفي أنها قامت بإحياء حفلة فنية كبيرة في مهرجان الموسيقى العربية منذ نحو عام رغم معاناة المرض وكبر السن، لكن الجمهور لم يكن يترك فاصلا إلا ويحييها بحماسة شديدة لم تجعل قاعة المسرح تهدأ من التصفيق الحاد طوال الحفل».

وأشار إلى أن «الجمهور رشح سعاد محمد لخلافة صوت أم كلثوم نظرا لموهبتها الكبيرة وعبقرية غنائها التي تجلت منذ انطلاقتها الأولى وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حجم الموهبة والتفرد الذي كانت تتمتع به في الغناء».