متحف الحضارة والفنون الإسلامية برقادة.. نافذة حضارية على تاريخ تونس

أثار غياب الحلي الكثير من الأسئلة حول ظاهرة سرقة الآثار من الدول الإسلامية

مجسم لجامع عقبة بن نافع بالقيروان داخل المتحف
TT

تداولت على تونس عدة حضارات، وحكمها العديد من الأقوام، وخضعت للكثير من القوى المحلية والإقليمية والأجنبية، لكنها لم تسلم القيادة سوى للإسلام. ففي تونس اليوم آثار كثيرة ميتة مبعثرة ومندثرة ومتحفية عن الفينيقيين والرومان والبيزنطيين، في حين تعج المساجد بالأحياء ويردد من فوقها صوت الأذان، ويذكر رجالها عبر التاريخ باستمرار، حتى دستور تونس يشهد بذلك، والشعب كذلك، بآماله وأشواقه وتطلعاته. يقول لك التونسيون: نحن مسلمون عرب أو بربر، ولن تجد من يقول أنا فينيقي أو روماني سوى من باب المماحكة أو التنكيت أو ما يعرف في تونس بـ«الكوميك» الباعث على السخرية. في متحف الحضارة والفنون الإسلامية برقادة في محافظة القيروان، نجد تدوينا تاريخيا وأثريا للفتح الإسلامي وطريقة الحياة في ظل الحضارة الإسلامية. وتاريخ تونس أو إفريقية الإسلامية، يمكن حصره بداية من عام 27هـ/648م مع انطلاق حملة العبادلة السبعة وحملة عبد الله بن أبي السرح، ثم تواصلت مع معاوية بن حديج في 34هـ/654 م، وعاد بن حديج في حملة ثانية سنة 45هـ وحتى القرن التاسع عشر.

في الحقبة الأموية، شهدت إفريقية والقيروان نظام الولاة، بدءا من عقبة بن نافع سنة 50هـ/670 م، ثم عوضه أبو المهاجر دينار، ثم تعاقبت عليه أسماء وأسماء إلى حدود عام 132هـ وهو تاريخ فاصل، حيث سقطت الدولة الأموية وحلت مكانها الدولة العباسية. وقد وضعت في مدخل المتحف لوحة كبيرة تسجل التسلسل التاريخي للدول التي حكمت تونس، وبالتالي القيروان التي كانت تتمتع بمركزية خاصة جمعت في فترات عدة بين المركزية السياسية والاقتصادية والثقافية. فالفترة العباسية مثلا انطلقت منذ عام 132هـ/750م، وآخر وال عباسي هو تمام بن تميم التميمي في عام 183هـ/779 للميلاد. كما نجد شرحا غير مخل للأحداث التاريخية، فإبراهيم بن الأغلب، الذي اتخذ من القيروان عاصمة له، «ظل وفيا للعباسيين واستفرد بحكم القيروان وإفريقية سنة 184هـ/800م». ونلاحظ من خلال ذلك أن عملية التداول على السلطة كانت تتم عن طريق القوة، فبعد فترة تطول أو تقصر من حكم عائلة أو مجموعة، تحل محلها عائلة أخرى أو مجموعة ثانية تفتك السلطة منها بالقوة، وقد كان آخر أمير أغلبي، وهو زيادة الله الثالث 290هـ/903م نزع منه الملك على يد الدولة الفاطمية التي أسسها عبيد الله المهدي في سنة 297هـ/910م، حيث خلفه ابنه القائم ثم إسماعيل المنصور، وهو مؤسس وبان صبرة المنصورية عام 334هـ/946م، ثم خلفه ابنه المعز وهو الذي شهدت في عهده الدولة الفاطمية عاصمتين: الأولى في المهدية بتونس 341هـ، والثانية في القاهرة بمصر في حدود 365هـ. وبعد تغير ولاء والي تونس آنذاك المعز بن باديس من الفاطميين في مصر إلى العباسيين في بغداد، سلط عليه الفاطميون بني هلال في 444هـ عقوبة له فعاثوا في القيروان فسادا، وساهم الخلاف بين الفاطميين والعباسيين وضعف سكان تونس وتشتتت ولاءاتهم في سقوط البلاد بيد روجيه النورماندي، بيد أن الموحدين الذين حكموا المغرب الكبير حرروها سنة 555 ووحدها. ثم ما لبثت نزعة التفرقة والتشتت أن ظهرت من جديد على يد الحفصيين الذين كانوا ولاة للموحدين بتونس، فأعلنوا استقلالهم عن الموحدين والاستفراد بالحكم، فقد تنكر عبد المؤمن علي للمهدي بن تومرت في المغرب. وأسس أبو زكريا الحفصي الدولة الحفصية بتونس سنة 625هـ/1227م، ثم خلفه المستنصر. وقد عرفت الدولة الحفصية فترات ازدهار وانحدار حتى تدخل الدولة العثمانية لإنقاذ تونس من الإسبان وأصبحت بذلك ولاية عثمانية، حتى احتلال تونس من قبل فرنسا في عام 1881. يتكون متحف رقادة (وهو قصر قديم) من طابقين، ويلاحظ الزائر وجود مجسم خشبي لجامع عقبة بن نافع، إحدى روائع العمارة الإسلامية في التاريخ، وقد قسم إلى قسمين: قسم مغطى ويشمل المصلى والصحن المسقوف، والقسم الآخر من الجامع وهو الصحن والأروقة المحاذية له. كما يجد الزائر صورا ومجسمات وطواقي محاريب نصف كروية الشكل تعلو اللوحات الرخامية للمحاريب، وهي مصنوعة من الخشب المدهون وتتكون من صفائح معشقة على طريقة أعواد المراكب البحرية، وهي مستقدمة من ساحل العاج، مما يكشف عن حركة تجارية نشطة بين المسلمين القدامى والأفارقة. وتتميز الطواقي بزخارفها الفنية البديعة المشتملة على تشابيك متعانقة تنبثق منها أوراق خماسية وعناقيد مذنبة ومذهبة وتعود للقرن الثالث الهجري. كما نجد لوحات رخامية بيضاء مكتوبا عليها آيات قرآنية بالخط الكوفي، وهي تجسد الإبداع الإسلامي في مجال الخط. كما هنالك العديد من الأواني والمكاييل ولوحات الخزف والقوارير وأواني الزجاج التي عثر عليها في حفريات قرب رقادة وصبرة المنصورية، إحدى ضواحي القيروان، وتعود للقرن الرابع والخامس للهجرة، وتتميز بألوانها الزاهية، إلى جانب زخارف وتماثيل حيوانية تعود للقرنين الرابع والخامس الهجري/العاشر والحادي عشر الميلادي.

الأواني الفخارية التي وجدناها بالمتحف رائعة التصميم والجمال، مما يؤكد الذوق الرفيع لأولئك الأفذاذ ويزيل عنهم تلك الأوصاف الرقيعة التي ترميهم بالغلظة والجلافة، وهي أوان للطعام والشراب تعود للعصر الأغلبي، ومكتوب في وسطها «الملك لله» وهو الشعار الأغلبي. إن ما رأيناها من أوان في متحف رقادة لا يضاهي ما نستخدمه في القرن العشرين من أوان فحسب، بل يتفوق عليه. وهو ليس في ذروة المدنية والتحضر فحسب، بل غاية في الرومانسية.

كما توجد مربعات الخزف المستورد من أزدمير التركية ويعود للقرن العاشر والحادي عشر الميلادي، كما هنالك مربعات الجليز من صنع القلالين في تونس وتعود إلى القرن السابع عشر. وهي مربعات الخزف المعدني التي يزدان بها حاليا محراب جامع عقبة بالقيروان وهي تقنية إسلامية بحتة. وهي تقنية تجعل من المربعات التي تعود للقرن الثالث والرابع للهجرة، أي بعد مرور نحو 10 قرون، تحافظ على لمعانها، وهي مربعات نادرة الوجود.

توجد بالمتحف أيضا مجموعة صور لبعض المدن التونسية العتيقة كالمنستير وسوسة والقيروان. ومجموعة من النقوش الجنائزية، أو ما يعرف بشواهد القبور، وألواح خشبية مزخرفة، ومصابيح برونزية ومشاكٍ (جمع مشكاة)، منها مشكاة المعز بن باديس (424 - 443)، ومحابر من الجص، ونقوش على الرخام بخط كوفي، ويعود للقرن الخامس للهجرة، في نفس المكان مجموعة من الموازين، والنقود القديمة التي عرفتها تونس في العهود السابقة بما في ذلك العهدان الأموي والعباسي، ومركزية القيروان في صك العملة. وإلى جانب قطع النقود، نجد اسم الأمير الذي ضربت في عهده، من الأغالبة حتى نهاية الدولة الحسينية، ونجد أن الدينار ذهبي والدرهم فضي والفلس من البرونز. ومن ذلك مجموعة النقود التي ضربت في الدولة الفاطمية وخاصة في عهد المعز لدين الله الفاطمي، والإمارة الصنهاجية، وخاصة زمن المعز بن باديس وهي مجموعة كبيرة جدا وجدت أثناء الحفريات، التي جرت في فترات سابقة قرب القيروان. ومن ذلك دنانير تعود للعهد الزيري، وأخرى إلى العهد الحفصي، وكذلك للعهود الأغلبية والفاطمية. وكان بالمتحف الكثير من الحلي، لكن القائمين على المتحف أخفوها نظرا للأوضاع الأمنية التي سادت تونس في أعقاب ثورة 14 يناير (كانون الثاني). وقد أثار غياب الحلي من متحف رقادة الكثير من الأسئلة حول ظاهرة سرقة الآثار من الدول الإسلامية، ففي السنوات الماضية هزت الأوساط التونسية أنباء حول سرقة مخطوطات الرق الأزرق، وهي مخطوطات قرآنية كتبت على جلود الغزلان، وهي اتهامات ظلت تتداول منذ القرن التاسع عشر. وتوجد في المتحف نماذج من الرق الأزرق إلى جانب أدوات طبية وصيدلية تعود للقرن الرابع والخامس للهجرة العاشر والحادي عشر الميلادي، ومشكاة برونزية وتماثيل. وقال الباحث في الآثار زهير الشهايبي لـ«الشرق الأوسط»»: «القيروان تحتوي على مجموعات كبيرة من المصاحف المكتوبة على جلود الغزلان أو ما يطلق عليها الرق الأزرق، وتعود إلى القرون الأولى للإسلام». وتابع «كما ترون، ففي المتحف أيضا مجموعات من المصاحف بالخط الكوفي لها ملاحق للإعراب، ومجموعة أخرى مكتوبة بماء الذهب، والزخرفة بماء الذهب»، وتوجد المصاحف التاريخية بالجزء العلوي من المتحف، ومن بينها ورقتان من مصحف المعز بن باديس. ونمنمات، ومخطوطات... القيروان تحافظ على ثرواتها بفضل مكتبة القيروان العتيقة». لكن أغرب ما رأته «الشرق الأوسط» مصحف مبطن بوثيقة عبرية تعود إلى أواخر القرن العاشر.