«بارومتر المخاطر» يكشف عن أن مخاوف الإنسان بعيدة جدا عن الواقع

الموت بسبب الكوارث يقض مضاجع 66% من الألمان رغم أن نسبة حدوثه لا تزيد على 1 إلى مليون

الخوف من الحوادث لا مبرر له وضئيل جدا مقارنة باحتمالات أخرى يغفل الإنسان عنها
TT

تصعد كل مرة إلى الطائرة المتجهة إلى البلدان السياحية فيساورك خوف غامض من خطر أن يتوقف محرك الطائرة فجأة أو أن تضربها صاعقة أو أن تصطدم بجسم طائر مجهول UFO، لكن الخطر الحقيقي يكمن في مكان آخر بعيد كل البعد عن هذه المخاوف؛ لأنه قد ينهي حياتك فجأة بفعل جلطة قلبية.

الطبيب والكاتب الألماني كلاوس هايلمان نشر كتابا جديدا بعنوان «بارومتر المخاوف» يوثق فيه مختلف مخاوف المواطن الألماني، ويضع لها سلم خطورة بالنسب المئوية، ويقارنها بنتائج مختلف استطلاعات الرأي حول مخاوف الألمان الحقيقية. كما قارن هايلمان في كتابه (منشورات هاينة) هذه المخاوف بإحصاءات رسمية من دائرة الإحصاء المركزية عن عدد الكوارث وعدد الحوادث واحتمالات حدوثها، ومبلغ تأثيرها على حياة الإنسان.

ويتنبأ الطبيب، المتخصص بعلم النفس ومخاطر الموت، بسيناريوهات مختلفة لموت الإنسان، ويضع لها نسبة مئوية. ويقول هايلمان: إن احتمال الموت، لهذا السبب أو ذاك، يقل ويزيد حسب عدد الأصفار على يمين النسبة. وهكذا يمكن لبعض المخاطر أن تحدث وتنهي حياة الإنسان بنسبة 1:26000، كما هو الحال في احتمال الموت بسبب حادث منزلي بائس، أو بنسبة 1:100000، احتمال أقل في هذه الحالة، كما هو الحال في الموت قتلا على يد جار متهور أو زوج غيور.

عموما يظهر من الكتاب أن الخوف من الكثير من «الحوادث» لا مبرر له وضئيل جدا مقارنة باحتمالات أخرى يغفل الإنسان عنها، فالبدانة اليوم أخطر من حوادث الطرق، وأمراض القلب والدورة الدموية أخطر بكثير من الفيضانات، وداء السكري وارتفاع ضغط الدم أخطر بما لا يقاس من التسمم بالأغذية، كما حصل مؤخرا بسبب البكتيريا المعوية «إيهيك» التي قتلت 10 ألمان خلال شهرين.

كمثل فإن استطلاعا للرأي أجرته شركة التأمين «R+V» الألمانية يثبت أيضا أن المخاوف اليومية للألمان هي آخر ما يهدد حياتهم؛ إذ جاء الخوف من البطالة في المرتبة الأولى من مخاوف الألمان، يليه الخوف من ارتفاع الأسعار والكساد الاقتصادي، ثم الخوف من الكوارث الطبيعية مثل الهزات الأرضية والفيضانات، بل وحتى التسونامي. وإذا كان الخوف من البطالة كبيرا نسبيا، على الرغم من أن نسبة حصوله ضئيلة جدا بالنسبة لموظفي الدولة كمثل، فإن الخوف من الجفاف أو البراكين لا مبرر له.

هايلمان قاس أن 66% من الألمان يخافون من هذه الكوارث الطبيعية على الرغم من أنها بعيدة كل البعد عنهم. فخطر أن يموت الإنسان بسب هذه الكوارث لا يتعدى نسبة 1: مليون، لكنه يقض مضاجع الألمان يوميا. والشيء ذاته ينطبق على الخطر الرابع الذي يخشاه الألمان حسب إحصائية «R+V»، وهو الموت بسبب السرطان؛ إذ إن خطر الموت بأمراض القلب وجهاز الدوران أكبر بكثير. ويخاف الألمان بالدرجة الخامسة من الموت ضحية عملية إرهابية، في الداخل أو في الخارج (أثناء السياحة) على الرغم من أن نسبة هذا الاحتمال لا تقل عن 1 إلى مليون.

ويقول هايلمان: إن بعض القرارات تؤثر في حياتنا دون أن نشعر، وربما تخل بنسبة الخطر الذي قد نتعرض له. فقرار الرجل أن يبقى عزبا سيكلفه 3500 يوم من حياته؛ لأن الدراسات العلمية تثبت أن عمر العزوبية أقصر. ويصح هذا على النساء أيضا، إلا أن ذلك سيكلف المرأة العزباء 1600 يوم فقط.

وقد يقرر الإنسان، بسبب جار مزعج، الانتقال من حي إلى آخر، فيصادف الموت، أو أن يقرب أجله أيضا؛ لأنه لم يكن يعرف أن الحي الجديد يقع بالقرب من مقبرة لدفن النفايات النووية. وقد ينتقل العامل، خوفا من المرض، من العمل في المناجم إلى العمل في الطرقات فيسقط ضحية حادث سير. ونسبة كل هذه الاحتمالات تقل عن واحد إلى مليون، لكن رأس الإنسان مشحون بالخوف منها.

وإذا عدنا إلى الخوف الدائم من الطيران نرى أنه الغالب لدى الإنسان على الرغم من أن خطره تضاءل كثيرا قياسا بخطر ركوب القطار أو السيارة أو الحافلة. تراجعت حالات الوفاة بسبب حوادث الطرق في ألمانيا من 19 ألفا عام 1970 إلى مجرد 3651 عام 2010 وراح ضحيتها ما مجموعه 110 آلاف خلال هذه الفترة. في الفترة نفسها كان عدد حوادث الطيران، بين 1956 و2006، يبلغ نحو 1500، وكان ثلثها مصحوبا بموت شخص أو أكثر (المجموع 30 ألف ضحية). وانخفض عدد الحوادث بنسبة الربع في مجال الطيران منذ عام 1990 وانخفض عدد الضحايا بأكثر من 70%.

وإليكم المزيد من هذه الإحصاءات الطريفة: فالتدخين يكلف المدخن عموما 2250 يوما أقل من الحياة، هذا إذا لم ينهه السرطان. ويقلل العيش تحت سقف واحد مع مدخن 50 يوما كمعدل من حياة الإنسان. وإذا كان البعض لا يستطيع العيش من دون 5 - 6 أقداح كبيرة من القهوة فعليه أن يعرف أن الشراهة في شرب القهوة تقلل حياته بمعدل 6 أيام في الأقل.

يتسلل هايلمان إلى عالم الرياضة من خلال إحصاءاته ليذكرنا بانتحار حارس مرمى منتخب ألمانيا لكرة القدم روبرت إنكه بعد كآبة طويلة «صامتة» وناجمة عن عدم قدرته على تحمل المسؤولية عن الأهداف. يعيدنا أيضا إلى لاعب المنتخب الشاب، ولاعب فريق بايرن ميونيخ، سيباستيان دايسلر، الذي اضطر للاعتزال وهو بعمر 24 سنة بسبب الاكتئاب وتكرر الإصابات. والرياضة جميلة وضرورة، لكن بعض أنواعها لا يقل خطرا أحيانا عن السرطان أو الإرهاب. فخطر الموت في مجالات الطيران والمظلات والبالونات يرتفع إلى 1:600، ثم يرتفع إلى 1:500 في مجال قيادة الهليكوبترات. وهو أقل في مجال التزلج على الجليد والطيران بالأجنحة (الانزلاق)؛ لأنه يبلغ 1:2000. أما خطر الموت في رياضة تسلق الجبال، على الرغم من الاعتقاد السائد بأنه كبير، فهو لا يزيد على 1:35000.

في مجالات لعب الكرة، بجميع أنواعها، والتمرن في استوديوهات اللياقة، تترتب المخاطر كالتالي: التمزقات والتشنجات العضلية 35.5%، كسور عظام ورضوض 28.4%، إصابات الغضاريف وروابط العضلات 21.3%، الأسنان 4%، ارتجاج الدماغ 2.9%.

لماذا هذا الخوف كله من أشياء لا تشكل خطرا أو أنها كانت تشكل خطرا على الإنسان، خصوصا في ألمانيا؟ يقول الباحث: إن هذه المخاوف ما عادت مبررة؛ لأن الحياة تطورت كثيرا، السكن والعيش مضمونان للجميع، وحتى للعاطلين، التأمين الصحي إلزامي للجميع، الموت في حوادث الطرق يقل يوميا بفعل التقدم التقني وتحسن هندسة الشوارع وميكانيكا السيارات، وترفع «مرسيدس»، منذ الآن، بثقة من يعرف المستقبل، شعار خفض نسبة الموت بسبب السيارات وحوادث الطرق إلى الصفر. العلاج تحسن كثيرا، الإيدز كمثل ما عاد قاتلا، وتحول إلى مرض مزمن، التشخيص المبكر أفضل، وصار بالإمكان مراقبة المريض على شاشة الكومبيوتر في المستشفى وهو يقيم في بيته، وذلك بفضل الطب اللاسلكي (التيليميديسن).

يذكر كلاوس هايلمان المواطن بأن الخوف من الموت، والخوف من الكوارث، والخوف من كل شيء يكفي بنفسه لتقصير عمر الإنسان. ومن يعِش مشحونا بالمخاوف يمرض أكثر من غيره، فالخوف نفسه قد يكون مرضا ويقضي في النهاية على المواطن المذعور من الكثير من الأشياء، التي لا تشكل خطرا داهما على حياة الإنسان، والممتدة بين العولمة والتقنيات الرقمية.