49 «رؤية» فنية معاصرة لإحياء «ولادة» ذاتية في معرض مشترك

فنانون لبنانيون يشاركون في «العولمة» الجديدة للفن

عمل لبسام جعيتاني - فحم زيتون («الشرق الأوسط»)
TT

تظهر على جدران وبين أروقة «مركز بيروت للمعارض» اللوحات والمنحوتات والأعمال التجهيزية المختلفة وكأنها منتشلة من جحيم الواقع. لوحات تتمترس قرب مجسمات تشكيلية وتجهيزية توحي بأفكار تقلق شاغليها. فالفن دوما هو تحويل ما هو مقلق إلى سحر، وتحويل السحري إلى واقع ملموس. هكذا كانت تحاكي الأعمال في معرض «الولادة من جديد» كل زائر أتيحت له الفرصة ليعبر زوايا المعرض الواقع قرب الواجهة البحرية للعاصمة بيروت، مبهورا بالنتاج الفني اللبناني.

فعلى ما يبدو أن القدرة على التعامل بحرية، بألوان الزيت والإكليريك على القماش والحبر والغواش على الورق وبالمعادن الملحومة حراريا أو المقطوعة بالليزر والحديد والصلصال، إضافة إلى فنون الملصقات والمحروقات وتراكمات من الشعر والفحم من نواة حبات الزيتون، متأصلا في كل عمل. وقد اتسم المعرض برموز مختلفة. استخدمت أشرطة من الحديد ومن الإسفنج، وقُدمت عروض من الصور الطبيعية والمشوهة، وعرضت أشرطة فيديو ورسومات على الكومبيوتر، إضافة إلى الصور الرقمية.. كلها أساليب فنية تشكل خروجا على الرموز والأساليب المعهودة. فالموديلات الحية في إضاءة «باهرة»، مع الالتزام بالظلال بكل أشكالها تبدو بارزة بكل أبعادها في اللوحات المعروضة. هذه الظلال تعمل على تكثيف الحضور المتألق للمفردات التشكيلية. المفردات التائهة والهائمة بعيون فنانيها «مبهمة» النظرة، في تكوينات واقعية وألوان تجمع كل صفات التناقض.

إن كل ما هو غير مرئي لا بد أن يتم فهمه بواسطة ما هو مرئي.. هكذا تختصر تجربة بعض الأعمال الفنية في المعرض. في لوحة الفنان جميل ملاعب «قرية الأحلام» تختبئ تحت سطح ملامحها البيضاء المقشرة بسواد الظلال انفعالات وحالات نفسية متغيرة لمكان يعبر عن نسيج اجتماعي لبناني مسكون بالتناقضات. وكل عمل هو نتاج لتفاعل زمني ومكاني، كما هو واضح في لوحات لور غريب التي وقعت بعنوان «بيروت تنادي أجيال المستقبل». أما في صور جيلبير الحاج (رجوة من مجموعة «لماذا نشعر مثل كافكا؟») وكريم جريج (ذاتي) وإلياس معماري ورانيا مطر، فإن الوجوه والأمكنة التي رصدت فيها الأعمال بكل اختلافاتها ودقائقها الصغيرة أتاحت الرؤية والتمعن بتفاصيل هشة ويومية وغير مكتملة في كثير من الأحيان. وعلى منوال الواقع والصراع الذاتي والمجتمعي تنسج صور هؤلاء الفنانين مشاهد فجة ورؤيوية تتخدر وتستعيد وجودها من خلال الظل، وتشدد هذه الصور على علاقة حميمية بالضوء.

تتميز أعمال المعرض بقدرة هائلة في امتصاص الواقع وتجسيده. فالأمكنة أو الفضاءات محدودة الأبعاد هي المصدر الأول الذي تتغذى منه هذه الأعمال وجوديا وتصبح محاولة الفنان اختراق خصوصية الآخرين وذاتيته أيضا بمادة خاصة ومتحولة عبر الفن، مشروعا يحفز المخيلة على الذهاب في جذور العلاقة بين الكائن الاجتماعي وحيزه الضروري.

فالمعرض لا يقدم رسوما ولوحات فحسب، بل كل ما يندرج تحت تسمية الفنون التشكيلية والتجهيزية من صور وتصاميم وأشكال ومنحوتات وحتى أفلام. ويأتي هذا الأسلوب لتأكيد حيوية الفن المعاصر. وتقدم لنا التشكيلة الفنية في المعرض أسماء لبنانية مهمة مثل لور غريب وجميل ملاعب ومازن كرباج وشكري شمعون وراشد بحصلي وماريو سابا وغيرهم.

تؤكد القائمة على المعرض، جانين معماري، أن «المعرض نظم بالاشتراك مع (سوليدير) ليبتكر الفنانون أعمالا جديدة أو يقترحوا أعمالا حديثة لهم مستوحاة من فهمهم وتعبيرهم لفكرة (الولادة من جديد). وذلك بكل حرية وبالمواد التي يختارونها». وأضافت معماري أن «الأعمال تنوعت، فشملت اللوحات والتجهيزات المتعددة والفيديو والصور الفوتوغرافية والنحت، وذلك يدل على تعبير مليء بالخيال وابتكار دائم التجدد»، مشددة على أن «العمل الابتكاري يتيح لنا الفرصة لكي نتحرر عبر تحقيق الذات والانعكاس والخيال البحت. ويسمح بتطهير النفس الذي يكون في بعض الأحيان مؤلما وفي البعض الآخر مرضيا وهادئا»، مؤكدة أن «هذا المعرض ليس عرضا شاملا للفن اللبناني، لكننا نتأمل أن يدل على اهتمام فنانينا بالحرية والذاتية والحسية، وأن يعترف لهم بمكانتهم في ساحة الفن المعاصر»، مشيرة إلى أن «هذه الأعمال تعرض لأول مرة».

أما السيدة دانيال جيرودي، الأمينة العامة للمتاحف الفرنسية، فأوضحت أن «هذه الفكرة الرمزية التي استوحت بها جانين معماري لتكون حلقة وصل بين الفنانين أتاحت بكل حرية الفرصة لأكثر من 60 فنانا من الساحة اللبنانية لكي يلتقوا وجها لوجه ويقدموا للجمهور البيروتي نظرتهم حول الفن المعاصر»، مضيفة: «تم اختيار 50 فنانا تقريبا. تتباعد أعمارهم مثلما تختلف طرق التعبير لديهم وتتراوح تواريخ ميلادهم بين سنة 1930 لأكبرهم خبرة وسنة 1980 عام مولد 3 منهم. فبينهم من يعود نشاطه إلى نصف قرن مرت عليهم الحروب وذاقوا طعم المنفى فأصبحت أعمالهم تحمل صفة الشاهد. أما الأكثر شبابا فإنهم تدربوا فيما بين وطنهم الأم والعواصم الأجنبية في لندن وباريس وبرلين وروما ونيويورك ومونتريال وموسكو وطوكيو، وهكذا تراهم يشاركون فعلا في العولمة الجديدة للفن». وأكدت جيرودي أن «وضع الفنانين في الشرق الأوسط يتطور بسرعة، كما أن تسهيل التبادلات على شبكة الإنترنت وتطور وسائل الإعلام يزيد من عجلته. وتشير جيرودي إلى أن فناني المعرض «يوجهون اهتمامهم المشترك نحو تراثهم فيرونه هشا، مما يدفعهم إلى التعبير الشاعري أو الساخر أو المتشائم أو المليء بالأحلام أو المفرط في الواقعية». أما رئيسة «جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت»، الأستاذة الجامعية هند الصوفي، فرأت أن هذه «التظاهرة» الفنية تمثل عودة «الحياة من جديد» إلى بيروت من خلال وجود مركز دائم للفنانين اللبنانيين في «البيال» يتيح لهم التلاقي وتبادل المعارف الفنية لتطوير العمل الفني اللبناني، مؤكدة أن هذا المعرض يدفع الفنانين إلى مزيد من الاختبار والتجريب في مجال الفن المعاصر.

الأعمال التي اختيرت رأت النور في الأشهر الماضية من أجل بيروت ومتحفها الكبير، إنما وحدة الزمان هذه لا تتوافق مع وحدة المكان، فبعض الأعمال أتت من محترفات مقرها باريس ولوس أنجليس وبرلين ونيويورك، حيث يوجد الانتشار اللبناني. وتتميز بتشكيلة واسعة من الوسائل والقياسات من مفكرات سفر صغيرة إلى أعمال كبيرة متعددة الأقسام، وصولا إلى التجهيزات. يُشار إلى أن المعرض ممتد إلى آخر شهر يوليو (تموز) في بيروت.