العم سلطان: فقدت نور عيني وبعض أصابعي وأنا صبي وأنتظر مساعدة الحكومة

«الشرق الأوسط» تقتحم معاناة قرية مصرية دمرتها الألغام

«العم سلطان».. أحد ضحايا ألغام الحرب العالمية الثانية ينتظر مساعدة الحكومة («الشرق الأوسط»)
TT

قسوة الحياة التي عاشها على مدى سنين عمره التي جاوزت الثمانين، منعكسة على ملامحه، فهو رجل شهد الحرب العالمية الثانية، وكان من ضحايا ألغامها التي أصابت عينيه وأصابع يديه.

الطريق إلى قريته النائية عبارة عن مدق غير ممهد، حتى أن السيارة كانت تهتز، وهي تناوش الأحجار المتراكمة فيه. وبعد نحو 16 كم، من طريق العلمين في سيدي عبد الرحمن ظهرت ملامح قرية «بلوزا»، مساحات شاسعة وبيوت قليلة غير مسكونة مرمية في عمق الصحراء الغربية، فقد رحل أغلب أهالي القرية من قسوة الحياة هناك، وأمام بيت صغير مبني من الحجر الأبيض، قابلني الرجل، ورغم عينيه اللتين ذهبتا مع انفجار لغم، تشعر أنه مبصر، وأنه يراك وهو يشد على يديك بترحاب وحميمية.

اسمه سلطان سعد بلوزا، شهد الحرب العالمية الثانية، والتي لا يزال صداها شديد الوطأة عليه وعلى أهل قريته «بلوزا»، يذكر أنها سميت على اسم جده البعيد، وأنه كان صبيا في الثانية عشرة من عمره حين أصابه لغم، أخذ معه عينيه وبعض أصابع يديه.

يروي العم سلطان لـ«لشرق الأوسط» قائلا: «في عام 1942 كان عندي تسع سنوات، وجاءت قوات الإنجليز، والألمان والطليان، وتم ترحيلنا عن الوطن لمدة سنة تقريبا، وعندما رجعنا كان كل شيء نمسكه (يطج) أي ينفجر، حتى السيجارة كان في نصفها لغم، والراديو، والقلم، كل شيء». ويكمل بأسي: «ضاع رجالنا وأغنامنا، بيتنا وحده ضاع منه 21 رجلا انفجرت بهم ألغام».

لكن أين تم ترحيلكم؟ يرد بلهجته البدوية: «إلى قرية رأس الترعة (سنكريس) في محافظة البحيرة، كنا نعمل في جني المحاصيل، وتقشيرها، ذرة، فول سوداني، وكنا نعمل أيضا في تربية البهائم، وكانت الأجرة خمسة قروش يوميا، وكانت تكفي للطعام، أما الآن فكيلو البطاطس بأربعة جنيهات واللحمة لا نأكلها».

وعندما سألته من أين يكسب قوته؟ أجاب بقوله: «من فضل الله، الشؤون الاجتماعية تعطينا 150 جنيها منحة ألغام، ومرتين في العام تعطينا مبلغا إضافيا لا يكفي شيئا، وقد وعدوا مصابي الألغام بمشروع يعيشون منه لكن لم يأت أحد من الحكومة. بعد ما رجعت من البحيرة أمسكت بشيء ملقى على الأرض فانفجر في عيني وأصابعي، ذهبت إلى مستشفى حكومي بالإسكندرية للعلاج لكن شيئا لم يحدث، فالممرضة وضعت يدي في ماء ساخن، وعندما رجعت (ضرب) في يدي الدود، كانت عربة القطار التي أنا بها لا يستطيع أحد أن يدخلها من رائحة العفن، كنت كأني ميت، وأتوا بي من الإسكندرية إلى الضبعة».

وكيف كان العلاج إذن؟ أجاب: «أفراد القبيلة سخنوا زيتا ووضعوا فيه أصابعي، وأخذوا يزيلون جزءا جزءا ثم وضعوا يدي في الزيت مرة أخرى ويقشرون، وعالجوني».

أثناء الكلام كان الشاي دائما موجودا، ما إن ينتهي حتى يأتي براد آخر جديد، شاي على الطريقة البدوية، لذيذ الطعم في أكواب صغيرة خاصة، طلبت بعض الماء فأتوا به وهم يعتذرون من لونه المتغير فهم يشترونه من العلمين، ويخزنونه بعد ذلك للاستهلاك اليومي.

لاحظت وشما قديما على يده، ظننته من العادات البدوية، سألته: ما هذا الوشم؟ تنهد تنهيدة حزينة بها كثير من ذكريات الألم وأجابني: هذا من أثر الكي، فعندما كانوا يطهرون الجرح بالزيت المغلي، كانوا يغرزون بعض الإبر، نتج عنها هذا الوشم.

سألته بعد ذلك عن المدق الذي يوصل للقرية ولماذا لم يتم رصفه حتى الآن، قال: «أيام الإنجليز كان الطريق ممهدا ومضبوطا، لكن الحرب والمعارك وعربات شركات البترول كسرته تماما، قالت الحكومة من قبل إنها سترصفه وستبني لكل أسرة بيتا، لكنها طلبت منا عشرين ألف جنيه مقابل ذلك، ونحن فقراء لا نملك هذا المبلغ، فتم تقسيطه لندفع كل شهر 60 جنيها فدفعنا سنة ولم نستطع الاستمرار، فمن أين سنأتي بالنقود؟

لكن، هل ما زال هناك ألغام في هذه المنطقة، المسؤولون يقولون إن منطقة العلمين تم تطهيرها بالكامل؟

يجيب ابن العم سلطان (أبو وصفي) ويحكي: «منذ أربع سنوات، (طج) لغم في عدد من الرجال، كانوا يطبخون وماتوا كلهم، وكل واحد منهم كان مسؤولا عن أسرة وعائلة، الجيش طهر الكثير والكثير، لكن هناك قليلا جدا ما زال في هذه المنطقة». وقال بشيء من الخجل: «نريد فرص عمل في بلوزا، فنحن مرتبطون بالمكان وبأبي لكن العمل قليل جدا هنا».

يقاطعه العم سلطان قائلا: «يريدون تركي بحثا عن عمل، وأنا لن أترك المكان وسأموت في قريتي».

كان في الطريق مجرى لترعة صناعية (ترعة الحمام)، تم حفرها وتبطينها، لكن ليس بها ماء، وحين حل الظلام لاحظت أنهم لم يشعلوا النور بعد، ظننت أنه لتجنب البعوض والحشرات الهائمة، بعد قليل أشعلوا مصابيح الكيروسين! فاندهشت وسألت: ألا توجد كهرباء هنا؟ فقالوا لا، لم تدخل الكهرباء بعد! وأنا أتأهب لركوب السيارة تحسبا لصعوبة الطريق قبل أن يوغل الظلام، اقترب مني طفل صغير من أطفال الأسرة، وهمس لي: «نفسي أشوف التلفزيون»! في الزمن الذي نعيشه ما زالت هناك قرى لم تدخلها الكهرباء، ودون مياه، وطرق ممهدة، أو مستشفى، أو حتى نقطة إسعاف قريبة، ماذا يحدث لو أن أحدهم أصابه شيء يستدعي ذهابه للمستشفى؟ هل سيسير على قدميه 16 كيلومترا؟ فلا توجد إلا سيارات البترول التي تعمل نهارا فقط.

قرية تركها معظم سكانها هربا من قسوة العيش هناك، لماذا عدم تشغيل «ترعة الحمام» حتى الآن؟ لتستبدل الصحراء ثوبها الأصفر، وتجذب بالسنابل الحية البشر لهذا المكان، الذي كان يوما سلة غذاء الرومان، ولماذا لا تضاء القرية بالطاقة الشمسية؟ وما الحل الفعال لمساعدة ضحايا الألغام؟ أيضا لماذا لا تقوم شركات البترول (5 شركات) برصف الطريق بالإضافة للمشاركة المجتمعية للمكان الذي تستفيد منه، سألت «الشرق الأوسط» حسين الصاوي مدير إدارة تنمية وبناء القرية في محافظة مطروح، فقال: «ترعة الحمام تمتد من العلمين حتى وادي النطرون، الترعة على الشمال بها ماء لأن الاحتياج في المنطقة الشرقية كبير جدا، ولكي تعمل هذه الترعة بكامل طاقتها تحتاج ترعة أخرى لتغذيها. وهذه مسؤولية وزارة الري، فلو تم ملء الترعة بالماء، سيعم المكان خير كثير، وسيتم إحياء المنطقة بشكل كبير وستتجه الاستثمارات المختلفة من مصر والعالم العربي للمنطقة».

أما عن استخدام الطاقة الشمسية للإنارة فأوضح الصاوي أن هناك مكانين فقط يعملان بالطاقة الشمسية هما تجمع «عين الزهرة» و«جارة أم الصغير» التي بها خزان مياه عملاق تشترك فيه مصر والسودان وتشاد وليبيا، وهذا الخزان مصدر النهر العظيم في ليبيا، وتم استخدام الطاقة الشمسية هناك لصعوبة ربط هذين المكانين بشبكة كهرباء، أما قرية بلوزا فمن الممكن جدا ربطها بالشبكة.

وعن الألغام قال: «العلمين تم تطهيرها من الألغام تماما، لكن تبقى أهم مشكلة وهي تخزين مياه الأمطار، فنحن في محافظة مطروح مصنفون كمنطقة مطرية تعتمد على الأمطار في المقام الأول، وتحدث مشكلة لو لم تسقط الأمطار، فليس عندنا مياه جوفية، والمشكلة الثانية أن وجود الألغام في السابق عمل على هروب الاستثمارات التنموية من المنطقة، وذلك عبر سنوات طويلة. وأنا هنا لا أتكلم عن المنتجعات السياحية التي تعمل شهرين في العام، بل المشاريع التنموية الزراعية والصناعية المختلفة، والتي عطلها وأخرها كثيرا وجود ألغام العلمين في السابق».